البكاء من خشية الله.. تربية للقلب

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية البكاء من خشية الله.. تربية للقلب

البكاء من خشية الله.. تربية للقلب

البكاء من خشية الله.. تربية للقلب
عيناك كم سفحت سيولا من الدمع لمصاب ألم بك، وكم ذرفت دموعا فرحا بحدث سررت به.
لكن... متى عهدك بدمعة الخضوع والخشوع، دمعة تصفو بها النفس،ويقوى بها الإيمان، دمعة تكون السبب في الإستظلال تحت ظل الرحمن...دمعة الخشية لله !!!!!؟ .

يتسارع وقع خطى الأيام، وتتسابق لحظات المرء، نحو ساعات يشبه بعضها بعضا، وتشتد غفلة الإنسان مع متطلبات شئونه الحياتية، فلا يفيق إلا بعد ما طويت مراحل من عمره مهمة، فيندم عندئذ ندما كبيرا، ويتمنى أن لو أيقظه موقظ أو صرخ في وجهه ناصح.

وهذا في الواقع يحصل لكل أحد، فلا أحد ينجو من الغفلة، ولا أحد يهرب من التأثر بدوامة الحياة، ولكن ثمة لحظات صدق تائبة، ونوبات خشوع صادقة تتلمس شغاف القلب المنيب إلى ربه، يحاسب فيها نفسه، ويجدد فيها العهد، وعندها تثور ثائرة مشاعره الصادقة التائبة، وتغرورق عيناه بدموع إيمان، فيكون بكاؤه عندئذ أشبه ما يكون بغيث السماء الذي يرسله الله سبحانه على جدباء الأرض فيحييها وينبت فيها الحياة من جديد.


القرآن والسنة
القرآن
ولقد أثنى الله في كتابة الكريم في أكثر من موضع على البكائين من خشيته تعالى فقال جل شأنه [وقرءاناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا] (الإسراء :106-109).
وقال تعالى [أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبين من ذريه آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذريه إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا] (مريم :58).
"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"
السنة:
وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله وقطرة تهرق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله تعالى" (أخرجه الترمذي).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم" (أخرجه الترمذي). وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله..."، وذكر منهم "ورجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه: (متفق عليه).

* تذكر دموع النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح :

فعن أنس رضي الله عنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط فقال : " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً " ، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين " رواه البخاري ، والخنين : هو البكاء مع غنّة .

وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم [ لايلج النار رجل بكى من خشيه الله حتى يعود اللبن في الضرع ولايجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم ] رواة الترمزى .
وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس شيء أحب إلى الله تعالى من قطرتين وأثرين: قطرة دموع من خشية الله وقطرة تهرق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله وأثر في فريضة من فرائض الله تعالى" (أخرجه الترمذي) وصححه الشيخ الألباني
و انظر إلى بكائه و هو سيد البشر صلى الله عليه وسلم
فعَن عبد اللَّه بنِ الشِّخِّير - رضي اللَّه عنه – قال : أَتَيْتُ رسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وَهُو يُصلِّي ولجوْفِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ . رواه أحمد ، والنسائي وهذا لفظه ، وأبو داود بلفظ " ... كأزيز الرحى " ، وصححه الشيخ الألباني
المِرْجل : القِدر الذي يغلي فيه الماء .
و عن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة يصلي: فتطهر ، ثم قام يصلي .
قالت : فم يزل يبكي ، حتى بل حِجرهُ !
قالت : وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بل لحيته !
قالت : ثم بكى حتى بل الأرض ! فجاء بلال يؤذنه بالصلاة ، فلما رآه يبكي ، قال : يا رسول الله تبكي ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟! قال : " أفلا أكون عبداً شكورا ؟! لقد أنزلت علي الليلة آية ، ويل لم قرأها ولم يتفكر فيها ! { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ  } الآية كلها [ آل عمران / 190 ] " رواه ابن حبان وغيره ، وصححه الشيخ الألباني .
وروى الترمزى عن ابن عباس قال سمعت رسول الله  صلى الله عليه وسلم يقول [عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشيه الله وعين باتت تحرس في سبيل الله]
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل عين باكية يوم القيامة إلا عينا غضت عن محارم الله، وعينا سهرت في سبيل الله، وعيناً خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله".
وقال عليه الصلاة والسلام : ما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ كظمها رجل، أو جرعة صبر عند مصيبة. وما قطرة أحب إلى الله من قطرة دمع من خشية الله أو قطرة دم في سبيل الله".
وقال عليه الصلاة والسلام : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه...


سمت الصالحين
وعن تميم الداري رضى الله عنه أنه قرأ هذه الآية : { أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ الجاثية / 21 ] فجعل يرددها إلى الصباح ويبكي .
بكى أبو هريرة رضي الله عنه في مرضه . فقيل له : ما يبكيك ؟! فقال : " أما إني لا أبكي على دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بُعد سفري ، وقلة زادي ، وإني أمسيت في صعود على جنة أو نار ، لا أدري إلى أيتهما يؤخذ بي !! " .
هذا إسماعيل بن زكريا يروي حال حبيب بن محمد - وكان جارا له – يقول : كنت إذا أمسيت سمعت بكاءه وإذا أصبحت سمعت بكاءه ، فأتيت أهله ، فقلت ما شأنه ؟ يبكي إذا أمسى ، ويبكي إذا أصبح ؟! قال : فقالت لي : يخاف والله إذا أمسى أن لا يصبح و إذا أصبح أن لا يمسي .
وحين عوتب يزيد الرقاشي على كثرة بكائه ، وقيل له : لو كانت النار خُلِقتْ لك ما زدت على هذا ؟! قال : وهل خلقت النار إلا لي ولأصحابي ولإخواننا من الجن و الإنس ؟؟ .
وحين سئل عطاء السليمي : ما هذا الحزن قال : ويحك ، الموت في عنقي ، والقبر بيتي ، وفي القيامة موقفي وعلى جسر جهنم طريقي لا أدري ما يُصنَع بي .
وحدث من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة : أن رجلاً قرأ عنده : { وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا } [ الفرقان : 13 ] فبكى حتى غلبه البكاء ، وعلا نشيجه ! فقام من مجلسه ، فدخل بيته ، وتفرَّق الناس .

ولم يقتصر هذا الأمر على الصدر الأول من الصحابة ولا على الرجال دون النساء ؛بل كان صفة لكل من أحسن صقل قلبه وأحب ربه وخاف عقابه ورجا رحمته؛فهذه حفصة بنت سيرين قيل لجاريتها :كيف رأيت مولاتك حفصة؟ قالت: \"إنها امرأة صالحة ،كأنها أذنبت ذنبا عظيما،فهي تبكي الليل كله وتصلي\"12
عن العرباض بن سارية قال: "وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة سالت منها العيون ووجلت منها القلوب..." (أخرجه أحمد والترمذي).
وكان الضحاك بن مزاحم إذا أمسى بكى فيقال له ما يبكيك؟ فيقول: لا أدري ماذا صعد اليوم من عملي!.
وقال ثابت البناني: كنا نتبع الجنازة فما نرى إلا متقنعا باكيا أو متقنعا متفكرا.
وقال كعب الأحبار: لأن أبكي من خشية الله فتسيل دموعي على وجنتي أحب إلى من أن أتصدق بوزني ذهبا.
وقال قتادة: كان العلاء بن زياد إذا أراد أن يقرأ القرآن ليعظ الناس بكى وإذا أوصى أجهش بالبكاء.
وقال الذهبي: كان ابن المنكدر إذا بكى مسح وجهه ولحيته من دموعه ويقول: بلغني أن النار لا تأكل موضعا مسته الدموع.
وعن يحيى بن بكير، قال: سألت الحسن بن صالح أن يصف لنا غسل الميت فما قدرت عليه من البكاء.
وعن محمد بن المبارك، قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى.
وقال معاوية بن قرة: من يدلني على رجل بكاء بالليل بسام بالنهار؟
وقال بكر بن عبد الله المزني: "من مثلك يا ابن آدم خلي بينك وبين المحراب، تدخل منه إذا شئت وتناجي ربك، ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان، إنما طيب المؤمن الماء المالح هذه الدموع فأين من يتطيبون بها؟.

وروى ابن أبى الدنيا عن حمزة الأعمى قال : ذهبت بي أمي إلى الحسن فقالت يا أبا سعيد ابني هذا قد أحببت أن يلزمك فلعل الله أن ينفعه بك قال فكنت أختلف إليه فقال لي يوما : بابني أدم الحزن على خير الآخرة لعله أن يوصلك إليه وابك في ساعات الليل والنهار في الخلوة لعل مولاك أن يطلع عليك فيرحم عبرتك فتكون من الفائزين .

ومن أقوال الحسن البصري : بلغنا أن الباكي من خشيه الله لا تقطر من دموعه قطره حتى تعتق رقبته من النار وقال أيضاً : لو أن باكيا بكى في ملأ من خشية الله لرحموا جميعا وليس شيء من الأعمال إلا له وزن إلا البكاء من خشية الله فإنه لا يقوم الله بالدمعة منه شيء وقال : ما بكى عبد إلا شهد عليه قلبه بالصدق أو الكذب .

وقال أبو جعفر الباقر : ما اغرورقت عين عبد بمائها إلا حرم الله وجه صاحبها على النار فإن سالت على الخدين لم يرهق وجهه قتر ولا ذله وما من شيء إلا وله جزاء إلا الدمعة فإن الله يكفر بها بحور الخطايا ولو أن باكيا بكى من خشية الله في أمه رحم الله تلك الأمة.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : لأن أدمع دمعه من خشيه الله عز وجل أحب إلى من أن أتصدق بألف دينار .
وعن أبى معشر قال : رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبى حازم يبكى ويمسح وجهه بدموعه فقيل له لم تمسح وجهك بدموعك ؟ قال : بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار .

وقال ابن الجوزى : كان ابن سيرين يتحدث بالنهار ويضحك فإذا جاء الليل فكأنه قتل أهل القرية .
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا *** الليل هزتني إليـك المضاجــع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنــى *** ويجمعني والهم بالليل جامع
وعن القاسم بن محمد قال : كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي بأي شيء فضل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة إن كان يصلى آنا نصلى وإن كان يصوم آنا نصوم وإن كان يغزو فآنا نغزو وإن كان يحج آنا لنحج قال فكنا في بعض مسيرتا في طريق الشام ليله نتعشى في بيت إن طفئ السراج فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج ستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي بهــذه الخشيــة فضل هذا الرجل علينا ولعله حين فقد السراج فصار إلى ظلمه ذكر القيامة .
وهذا شيخ الإسلام محمد بن أسلم الطوسى يقول عنه خادمه أبو عبد الله كان محمد يدخل بيتا ويغلق بابه ويدخل معه كوزاً من ماء فلم أدر ما يصنع حتى سمعت ابناً صغيراً له يبكى بكاءه فنهته أمه فقلت لها ما هذا البكاء؟ فقالت إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكى فيسمعه الصبي فيحاكيه فكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه فلا يرى عليه أثر البكاء .

من هنا نجد أن السلف الصالح أدرك حقيقة الإيمان وحققوه في حياتهم قولاً وعملاً وكانت سيرتهم العطرة زاداً يشحذ الهمم الراكدة وينير القلوب التي أظلمتها المعاصي ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقتطف بعضاً من سيرتهم ونسبح لحظات في جو إيماني مع خير الناس على وجه الأرض .

·         كان محمد بن المتكدر ذات ليله قائم يصلى إذ استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله فسألوه : ما الذي أبكاك؟ فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبى حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكى فقال : يا أخي ما الذي أبكاك ؟ قد رعت أهلك فقال له إني مرت بي آيه من كتاب الله عز وجل قال : ما هي ؟ قال : قول الله تعالى [وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ] قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما فقال بعض أهله لأبى حازم جئناك لتفرج عنه فزدته ، فأخبرهم ما الذي أبكاهما .

* وعن مهران بن عمرو الأسدى قال سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفه بالموقف وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء يقول واسوأتاه وافضيحتاه وإن عفوت وروى أحمد بن سهل قال : قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال : كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا فقيل لنا إنه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن قال وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له : إقرأ فقرأ [ألهاكم التكاثر] ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه وأنشا يقول
بلغت الثمانين أو جزتها *** فماذا أؤمل أو أنتظــــر
أتى ثمانون من مولـــدى *** وبعد الثمانين ما ينتظر
عَّلتنى السنون فأبليننــى *** ......................
قال ثم خنقته العبره وكان معنا على بن خشرم فأتمه لنا يقول
علتنى السنون فأبليننى *** فرقت عظامى وكل البصر

وعن سفيان قال كان سعيد بن السائب الطائفي لاتكاد تجف له دمعه إنما دموعه جاريه دهره إن صلى فهو يبكى وإن طاف فهو يبكى وإن قرأ في المصحف فهو يبكى وإن لقيته في طريق فهو يبكى قال سفيان فحدثونى أن رجلاً عاتبه على ذلك فبكى ثم قال : إنما ينبغى أن تعذلنى وتعاتبنى على التقصير والتفريط فإنهما قد استوليا على قال الرجل : فلما سمعت ذلك انصرفت وتركته .
* وقال الثورى : جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي فجعل سعيد يبكى حتى رحمته فقلت : يا سعيد ما يبكيك وأنت تسمعنى أذكر أهل الخير وفعالهم ؟ فقال : يا سفيان وما يمنعنى من البكاء إذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت عنهم بمعزل ؟ قال سفيان : حق له أن يبكى .

* وقال أبو مُسهر كان الأوزاعى رحمه الله يحيى الليل صلاه وقرآنا وبكاء وأخبرنى بعض إخوانى من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعى وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطباً من دموعه في الليل.
* وعن القاسم بن محمد البغدادى قال كنت جار معروف الكرخى فسمعته ليله في السحر ينوح ويبكى وينشد :
أي شيء تريد منى الذنوب *** شغفت بي فليس عنى تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتنى *** رحمه لي فقد علاني المشيـب
* قال الحارث بن سعيد كنا عند مالك بن دينار وعنده قارىء يقرأ [ إذا زلزلت الأرض زلزالها ] فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى انتهى القارىء إلى [ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ] فجعل مالك يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعاً .
* وروى أحد أقرباء رباح بن عمرو القيسى قال : كنت أدخل عليه في المسجد وهو يبكى وأدخل عليه البيت وهو يبكى فقلت له أنت دهرك في مأتم فبكى ثم قال يحق لأهل المصائب والذنوب أن يكونوا هكذا .
* أتى الحسن البصرى بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار قولهم [أن أفيضوا علينا من الماء] وذكرت ما أجيبوا به [إن الله حرمهما على الكافرين] .
* وعن إبراهيم بن الأشعث قال كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكى حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها .
* وعن عاصم قال : سمعت شقيق بن مسلمه يقول وهو ساجد رب اغفر لي رب اغفر لي إن تعف عنى تعف عنى تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي قال ثم يبكى حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد .
* وصلى تميم الدارى ليله حتى أصبح أو قارب الصبح وهو يقرأ آية ويرددها ويبكى [ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ]

* تذكر الموت :
إذا تذكرت أني في الدنيا غريب ولنهايتها قريب ،وأني لابد محاسب على أي فعل اقترفته أو قول تكلمت به، لأجازى إما بجنات النعيم أو العذاب الأليم (أعاذني الله وإياكم منه) فلا شك أني سأعمل على إيقاظ قلبي من غفلته وأثير في العين دمعتها و الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت .قالت معاذة العدوية لإمرأة أرضعتها : يا بنية كوني من لقاء الله عز وجل على حذر ورجاء ، فإني رأيت الراجي له محقوقا بحسن الزلفى لديه يوم يلقاه، ورأيت الخائف له مؤملا للأمان يوم يقوم الناس لرب العالمين\"13

فهذا كرز بن وبرة يدخل عليه بعض الناس وهو يبكي فيقول له: أتاك نعي بعض أهلك؟ فيقول: أشد، فيقول له : وجع يؤلمك؟ فيقول: أشد،فيقول له: وما ذاك؟ فيجيبه : بابي مغلق ،وستري مسبل ،ولم أقرأ حزبي البارحة،وما ذاك إلا بذنب أحدثته\"(6)

وروى عن كعب الأحبار رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: لأن أبكى من خشية اللَّه تعالى حتى يسيل الدمع على وجنتي أحب إليّ من أن أتصدق بوزن نفسي ذهبا، وما من باك يبكي من خشية اللَّه تعالى حتى تسيل قطرة من دموعه على الأرض فتمسه النار حتى يرجع قطر السماء وليس براجع، كما أن القطر إذا نزل من السماء لا يرجع إليها أبداً فكذلك الذي يبكي في الدنيا من خشية اللَّه تعالى لا تمسه النار أبدا.
قالت السيدة رابعة العدوية رحمها الله تعالى : بكيت عشر سنين عن الله, وعشر سنين بالله, وعشر سنين إلى الله, فأمّا ما هو بالله: فالرجاء به, وأما ما هو عن الله : فالخوف منه, وأمّا ما هو إلى الله: فالشوق إليه...

وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى كثيراً ما يبكي ويقول: يا نفس ! تريدين أن تجاوري الجبّار, وتشاهدي المختار, بأي شهوة ِتركتِها؟ بأيّ بعيد ٍقرّبته إلى الله؟ بأيّ وليٍّ أحببته لله؟ بأي عدوّ أبغضته لله؟ بأي غيظ ٍكظمته لله؟ لا, والله لولا عفو الله ورحمته...
وروي أنّ الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام: لن يتقرّب إليّ المتقرّبون بمثل البكاء من خشيتي.
الليلُ داج ٍوالأنام نيامُ والعارفون لدى الجليل قيام ُ
يتلون آيات الهُدى ودُموعُُهم تجري ومنها قد تفيضُ سجام ُ
لا يصبرون سويعة ًعن ذكره شوقا ً, وليس لمن يُحبُّ منامُ


مثيرات البكاء
1- الخلوة الصالحة في أوقات إجابة الدعاء: فالخلوة الصالحة هي خليلة الصالحين والعبّاد وكل قلب يفتقر إلى خلوة، وأنا هنا أنعتها بالصالحة وهي الخلوة التي يقصدها المرء بنية التعبد لله والخلوص له سبحانه وتعالى قال الله سبحانه: "وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً".. وهذه الخلوة الصالحة يكون فيها التدبر في شأن الإنسان وحاله مع ربه، ويكون فيها محاسبة المرء لنفسه، ويكون فيها استدعاء تاريخ حياة كل واحد مع نفسه وفقط، وتكون فيها المصارحة والمكاشفة بين كل امرئ وقلبه، فيعرف مقامه وتقصيره وكم هو مذنب مقصر خطاء.. وعندها يسارع إلى الاستغفار والبكاء من خشيته سبحانه.

2- الإنصات والتدبر للتذكرة والموعظة: فكم من كلمة طيبة كانت سببا في تغيير حياة إنسان من الغفلة إلى الاستقامة، وقد حذر العلماء من إغفال التذكرة وعدم التأثر بها، فقال إبراهيم بن أدهم: علامة سواد القلوب ثلاث.. ذكر منها: ألا يجد المرء في التذكرة مألما!.. وكان الحسن إذا سمع القرآن قال: والله لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا حزن وذبل وإلا نصب وإلا ذاب وإلا تعب، وقال ذر لأبيه عمر بن ذر الهمداني: ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد فإذا تكلمت أنت يا أبت سمعت البكاء من ههنا وههنا؟ فقال: يا ولدي ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة.

3- محاسبة الجوارح ومخاطبتها: فعن أحمد بن إبراهيم قال: نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موته فبكى وقال: قدماي لم تغبرا في سبيل الله!، فهذه إذن حسرات الصالحين، حسرة يوم يذكر طاعة لم يتمها، وحسرة يوم يذكر خيرا لم يشارك فيه، وحسرة يوم يمر عليه وقت لا يذكر الله تعالى فيه، والحق إن في الحديث إلى الجوارح لاسترجاع لواقع المرء الحقيقي الذي غاب عنه، فينظر إلى كل جارحة من جوارحه ويخاطبها: كم من ذنب شاركت فيه؟ وكم من طاعة قصرت عنها؟ وكم من توبة تمنعت عنها؟ وكم من استغفار غفلت عنه؟.. ويذكر قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ...} الآيات "فصلت".

نصائح تربوية
1- تهيئة البيئة التربوية الإيمانية مهمة في تربية المرء على رقة القلب واستشعار الخشوع واعتياد العين على البكاء، فلم يكن الصالحون يصلون إلى هذه الدرجة العالية من البكاء من خشية الله لولا أن هناك بيئة إيمانية تربوا عليها وفيها أعانتهم على ذلك وتلك البيئة لها أكبر الأثر في التشجيع على الأعمال الصالحة والتربي عليها، والمربون الذين يهملون تهيئة تلك البيئة أو يتناسون أثرها هم مخطئون ولا شك، يروي ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز بكى ذات ليلة، فبكت فاطمة زوجته، فبكى أهل الدار لا يدري أولئك ما أبكى هؤلاء فلما تجلت عنهم العبرة سألوه ما أبكاك؟ فقال: ذكرت منصرف القوم بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، فما زالوا يبكون!.
2- أثر القدوة مهم جدا في التربية على تلك العبادة الصالحة فقد كان البكاؤون السابقون يجدون القدوة الصالحة في ذلك من معلميهم ومربيهم فكانوا يتشبهون بهم إلى أن يصير العمل الصالح عندهم أساسا وأصلا، أما أن يبح صوت خطيب أو معلم يعظ الناس في البكاء والناس لم يروا عليه أبدا أثرا للبكاء فلا أثر لنصحه أبدا.
3- يجب ألا يكون بكاء المرء على شيء من الدنيا فات أو صاحب فقد أو مصيبة حدثت فذلك بكاء الدنيا وإنما مقصودنا هو بكاء الخشية من الله، وهو أن يكون باعث البكاء دائما هو خشية الله سبحانه وتوقيره والتقصير في حقه تعالى وكثرة ذنوب العبد وخوف العاقبة، وقد كانت أسباب بكاء الصالحين السابقين تدور حول: تذكر ذنبهم وسيئاتهم وآثار ذلك، أو التفكر في تقصيرهم تجاه ربهم سبحانه وما وراء ذلك، أو الخوف من عذاب الله سبحانه وسوء الخاتمة أو الخوف من ألا تقبل أعمالهم الصالحة، أو الخوف من الموت قبل الاستعداد له أو الشوق إلى الله سبحانه ومحبته، أو خوف الفتن ورجاء الثبات على دينهم أو رجاء قبول الدعاء.


عيناي لم تعودا تدمعان خشيةً.. كيف أسترِدُّ إيمانياتي؟
أنا طالبة جامعية، في فترة من الفترات كنت أشعر بإيمان عميق في داخلي، كنت أشعر بخشوع شديد في صلاتي وقراءتي للقرآن تصل إلى حد البكاء، ولكن هذا الشعور تغير، أرغب في استرداده، ولكن لا أعرف كيف، مع إنني الآن مواظبة على صلواتي، وأيضا صلوات النوافل وقراءتي للقرآن والأدعية، فأرجو منكم المشورة .    
أختي الكريمة،
اسمحي لي بدايةً أن أطمئنك بأن ما تشعرين به هو شعورٌ طبيعيٌّ ينتاب الإنسان، مصداقاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شِرَّة، ولكل شِرَّة فترة، فمن كانت فترته إلى سنتي، فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك" رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، وروى الترمذي نحوه وقال: حسن صحيح غريب.
والحمد لله أن فتورك جاء وفق سنته صلى الله عليه وسلم، فأنتِ ما زلتِ – ما شاء الله- محافظةً على الفرائض والنوافل والطاعات والذكر، فلا تقلقي كثيراً لما ترَيْن، فهي حالةٌ طبيعيةٌ تجتاح النفس البشرية وتأخذ وقتها وتمضي إن شاء الله، وستعودين بمشيئته تعالى إلى أفضل مما كنت، بشرط الحفاظ على ما تقومين به من طاعات وعدم الاستسلام لليأس، هذه النقطة الأولى.
أما النقطة الثانية فهي : أظن – أيضاً- أن من أسباب هذا التغير الذي تشعرين به تطورات طرأت في حياتك؛ انشغالات.. مشكلات.. دراسة.. التزامات عائلية. … وما إلى ذلك، فعليك النظر فيما استجدَّ في حياتك وشغلك، وبالتالي قلَّل من تركيزك في طاعاتك، فأثر على شعورك بلذة هذه الطاعات، انظري في هذه المستجدات، حاولي أن تضعيها في حيزها الطبيعي، لا تجعليها تتملك كل تفكيرك ووقتك، وبذلك تستطيعين العودة لتركيزك وخشوعك.
نقطةٌ رابعةٌ أخيرةٌ أنصحك بها أختي الكريمة: لكل إنسانٍ بعض الطاعات المحببة له في التقرب لله تعالى، أعمالٌ يحبها أكثر من غيرها، ويشعر من خلالها بالقرب من الله أكثر من أعمالٍ أخرى، وتختلف هذه الطاعات من شخصٍ لآخر، كلٌّ حسب نفسيته وطبيعته وفطرته، وأما وأنت في هذه الحالة من الإحساس بالتراجع الإيمانيّ، فأنصحك بالإكثار من الأعمال التي تشعرك بقربك من الله عز وجلّ، إن كانت قراءة القرآن فأكثري من قراءته وفضليها على غيرها من النوافل والطاعات، وإن كانت في قيام الليل فالتزمي ببرنامجٍ مكثفٍ من قيام الليل زائدٍ عن الحد الطبيعي الذي كنت تقومين به، وإن كان السجود فاستزيدي منه وأطيلي، وإن كان التصدق فأنفقي حتى لا تعلم شمالك ما تنفق يمينك، وهكذا.. أكثري من الأعمال المحببة إليك، والتي تزيدك قرباً من الله عز وجلّ، واسأليه سبحانه أن يعيد السكينة والهدوء إلى قلبك، وأن يرجع إليك العين التي لا تمسها النار "عينٌ بكت من خشية الله".

البكاء والإخلاص
تساؤل يثار كثيرا حول الموقف من البكاء أمام الناس وفي حضرتهم رغم ما يمكن أن يكتنف هذا من التماس ببعض شبهات المراءاة للناس وتصوير النفس بالخشوع والتقوى، فكثير من الناس يمتنعون عن ذلك البكاء ولا يبدونه مهما كانت الأحوال مخافة الاتهام بالرياء أو مخافة مداخلة النفس العجب، وعلى جانب آخر يرى البعض أن البكاء في المجالس وفى المواعظ شيء طبيعي لأصحاب القلوب الرقيقة لا يمكن إنكاره أو اتهام صاحبه بسوء نية، فما هو الموقف الصائب إذن؟.
الناظر إلى أحوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تابعهم ونهج نهجهم من علماء الأمة ليرى بوضوح أن البكاء كان سمة مميزة لهم -كما سبق أن بينا فيما سبق من آثار- بل أكثر من ذلك.. إن بعضهم كان ربما يظل طوال درس العلم الذي يلقيه يظل يبكي حتى ينتهي، فيروي الإمام الذهبي عن أبي هارون قال: كان عون يحدثنا ولحيته ترتش بالدموع، وقال جعفر بن سليمان: كنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أنه وجه ثكلى.. إلى غير ذلك من الآثار المتكاثرة.
ولكن هناك أيضا من الآثار ما حض على إخفاء ذلك البكاء وجعله في الخلوة ومنفردا فقط: فعن محمد بن زيد قال: "رأيت أبا أمامة أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده فقال له: أنت أنت لو كان هذا في بيتك"، وقال سفيان بن عيينة: "اكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك"، بل نقل الذهبي عن عمران بن خالد قال سمعت محمد بن واسع يقول: إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به.. إلى غير ذلك من الآثار.
وخلاصة القول في ذلك أن يعلم الإنسان نفسه البكاء من خشية الله وعند سماع الموعظة والذكر والتذكرة وعند محاسبته لنفسه أو غير ذلك، والأصل في البكاء أن يكون في الوحدة ومنفردا وفي الخلوات، ولكن إذا كان المرء بين الناس وغلبه البكاء فلا شيء في ذلك أبدا إذا اطمأن من نفسه الصدق والإخلاص بل إن ذلك كان حال الصالحين.






التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button