مريض
تمر عليه الليالي والأيام وهو لا يعلم أنه مريض, عليل لا يدري ما علته, بل ميت وإن
نبض قلبه بروح الحياة, فيبدو في أعين الناس سعيدًا, والسعادة عنه بمعزل, مسرورًا
وقد عان الحزن في حياته, تعلو محياه الضحكات والبسمات, وقلبه يتفطر ألمًا, ويتقطع
همًا وغمًا, فللقلوب صدأ لا يجلوه إلا ذكر الله, ولها أقفال مفتاحها لهج اللسان
بحمده, وإدامة العبد لشكره, فالذكر جنة الله في أرضه, من لم يدخلها لم يدخل جنة
الآخرة, وهو إنقاذ للنفس من أوصابها وأتعابها, بل هو طريق ميّسر إلى كل فوز وفلاح,
طالع دواوين الوحي لترى فوائد الذكر, وجرب مع الأيام بلسمه لتنال الشفاء.
إذا
مرضنا تداوينا بذكركمُ ونترك
الذكر أحيانًا فننتكس
بذكره
سبحانه تنقشع سحب الخوف, والفزع, والهم والحزن, بذكره تنزاح جبال الكرب والغم
والأسى.به يستدفعون الآفات. ويستكشفون الكربات. وتهون عليهم به المصيبات. إذا أظلهم
البلاء فإليه ملجؤهم. وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم. فهو رياض جنتهم التي
فيها يتقلبون. ورؤوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون يدع القلب الحزين ضاحكًا
مسرورًا, زين الله به ألسنة الذاكرين, كما زين بالنور أبصار المبصرين, فاللسان
الغافل كالعين العمياء, والأذن الصماء, واليد الشلاء, وهو باب الله الأعظم المفتوح
بينه وبين عبده, ما لم يغلقه العبد بغفلته, ولقد امتدح الله عباده المؤمنين أولو
العقول والألباب إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لأيات لأولي الألباب
الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات
والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك
فقنا عذاب النار].
وهم
أصحاب القلوب الرقيقة الرحيمة فلهم شهادة الله بالإيمان الحق إنما المؤمنون الذين
إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون
الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقًا لهم درجات عند
ربهم ومغفرة ورزق كريم ].
أخرج
مالك في الموطأ والترمذي والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال
النبي : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم, وأرفعها في درجاتكم, وخير
لكم من إنفاق الذهب والوِرق, وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا
أعناقكم؟)) قالوا: بلى, قال: ((ذكر الله تعالى)) .
ما
أشد الغفلة والإعراض عن خير العمل, وأزكاه عند الرب, وأرفعه في الدرجات وخير من
إنفاق الذهب والفضة, بل وخير من الجهاد في سبيل الله, إنها الخسارة العظيمة,
والغبن والهزيمة يوم يَحرم المرء نفسه هذا الفضل العظيم.
أخرج
الترمذي والحاكم وصححه, ووافقه الذهبي عن عبد الله بن بُسر رضي الله عنه أن رجلاً
قال: يا رسول الله, إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبث به قال:
((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)) .
قال
شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ: "الذكر للقلب مثل الماء للسمك, فكيف يكون حال
السمك إذا فارق الماء".
وللذكر
فوائد عظيمة, يضيق المقام عن إحصائها, بل يعجز العقل عن إدراكها, ولكن حسبنا شيئًا
من ثماره, وفوائده كما عدّها ابن القيم في الوابل الصيب:
منها:
أنه يورث الذاكر القرب من الله, فعلى قدر ذكره لله عز وجل يكون قربه منه.أخرج
البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يقول الله عز
وجل: أنا عند ظن عبدي بي, وأنا معه حين يذكرني, إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي,
وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم, وإن تقرب مني شبرًا تقربت إليه ذراعًا,
وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت منه باعًا, وإن أتاني يمشي أتيته هروله))
ومنها:
أنه يورثه حياة القلب وهو قوته, فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه
وبين قوته.روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال النبي : ((مثل
الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) .
ومنها:
أنه يورثه الهيبة لربه عز وجل وإجلاله لشدة استيلائه على قلبه, وحضوره مع الله
تعالى بخلاف الغافل, فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه.والواقع يشهد من خلال تجرأ
العباد على معصية الله, بل والمجاهرة بها على رؤوس الأشهاد.
ومنها:
أنه يحط الخطايا ويذهبها.روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك
له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر
رقاب, وكتبت له مائة حسنة, ومحيت عنه مائة سيئة, وكانت له حرزًا من الشيطان يومه
ذلك حتى يمسي, ولم يأتِ أحدٌ أفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك, ومن قال:
سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه, ولو كانت مثل زبد البحر)) .
وهو
سدٌ بين العبد وبين جهنم , فإذا كان ذكرًا دائمًا محكمًا, كان سدًا محكمًا لا منفذ
فيه, عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خذوا جنتكم)) أي ما
تستترون به وتتقون به, قالوا: يا رسول الله, أمن عدو حاضر؟ قال: ((لا, ولكن جنتكم
من النار, قولوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر, فإنهن يأتين
يوم القيامة معقبات مجنبات, وهنَّ الباقيات الصالحات)) .رواه الحاكم ووافقه الذهبي
على تصحيحه
ومنها:
أنه غراس الجنة.أخرج الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال
رسول الله : ((لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد, أقرئ أمتك مني السلام,
وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة, عذبة الماء, وأنها قيعان, وأن غراسها: سبحان الله
والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) .
ويكفي
من فوائده أنه يورث ذكر الله تعالى للذاكر.قال تعالى: فاذكروني أذكركم [البقرة: 152]
قال ابن القيم: "ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً
وشرفًا".ولقد عدَّ ابن القيم أكثر من سبعين فائدة للذكر في كتابه
"الوابل الصيب من الكلم الطيب", فهي حقيقة بإطلاعك.
وإن
حكم الله بيّنٌ واضح في الغافلين الساهين ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا
فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون )ومن أعرض عن ذكري فإنه
له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمىقال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا قال
كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى].
فكم
من لسان ناطق يحسن الحديث في كل شيء إلا في ذكر الله وما ولاه, وكم من قلوب تنبض
بالحياة وهو خاوية على عروشها, قد علاها غبار الغفلة, وعشعشت في زواياها عناكب
الران والقسوة, وكم من أجساد تدب على الأرض وهي إلى الموات أقرب, تتقرب إلى كل
أحد, وتبتعد عن ربها وخالقها, تذكر كل مخلوق وتنسى الخالق سبحانه, تخطب ود العباد,
وهي تسعى جهدها في إسخاط رب العباد.
الكون
من حوله يسبح, الطير في الهواء, والحوت في الماء, النملة في جحرها, الدواب والشجر,
الجبال والحجر, الهواء والماء, الأرض والسماء وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا
تفقهون تسبيحهم, ويبقى هو أسير الغفلة والهوى, صريعَ الجهل والنسيان.
أو
لا يتفكر الواحد منا في حضارتنا المعاصرة ، كثر المثقفون ، وشاعت المعارف الذكية ،
ومع ذلك كله ، فإن اضطراب الأعصاب وانتشار الكآبة داء عام . أفلا يُسائل نفسه أين
هؤلاء البؤساء من ذكر الله عز وجل ؟! أين هم جميعا من تلك الحصون المكينة ،
والحروز الأمينة ، التي تعتقهم من عبودية الغفلة والأمراض الفتاكة ؟!! أما علم
هؤلاء جميعا ، أن لدخول المنزل ذكرا وللخروج منه ؟! أما علموا أن للنوم ذكرا
وللاستيقاظ منه ؟! أو ما علموا أن للصباح من كل يوم ذكرا ، وللمساء منه ؟ ! بل حتى
في مواقعة الزوج أهله ، بل وفي دخول الخلاء
– أعزكم الله – والخروج منه ؟ بل وفي كل شيء ذكر لنا منه الرسول r أمرا ، علمه من علمه وجهله من جهله .
الخشوع
والتأديب: قال تعالى: إنما المؤمنون الذين
إذا ذكر الله وجلت قلوبهم . حيث يستشعر
عظمة رب العزة والجلال الذي بيده ملكوت كل شيء، والذي يقول للشيء كن فيكون، خالق
الخلق أجمعين، يستشعر تقصيره وتفريطه وغفلته وذنوبه وهو العبد الحقير للحديث:
((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... - ومنهم- ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه بالدموع)).
انخفاض
الصوت مخافة وطعما: قال تعالى: واذكر ربك
في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين.حيث
يستشعر العبد قرب ربه منه، وسماعه سبحانه، وعلمه فهو سبحانه: يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . فإنما هي
مناجاة، وخفقات قلوب، ممزوجة بدموع الانكسار والندم.
لزوم
المأثور فإنه أنفع وأبلغ: فأدعية وأذكار المصطفى r إنما هي مفاتيح لخزائن رحمه الله، والإتيان بالمفتاح المناسب
للباب المعلوم أيسر في حصول المراد.
لا
تخش غما ، ولا تشك هما ، ولا يصبك قلق ، ما دام قرينك هو ذكر الله . يقول جل وعلا
في الحديث القدسي : (( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في
نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم )) رواه البخاري
ومسلم .