عن مفهوم الفقر نتحدث
مع اتساع الاقتصاد التجاري وتوسع التمدن اكتسب
الفقر دلالات اقتصادية وأصبح الفقير هو الذي ينقصه المال والممتلكات لسد مختلف
حاجياته الضرورية والملحة التي يفرضها العصر. في حين كان الفقير في المجتمعات
البشرية قبل سيطرة الاقتصاد الرأسمالي هو ذلك الشخص الذي يكسب قوت يومه بصعوبة
جامة لكنه مع ذلك يظل عضوا كامل العضوية في الجماعة. إلا أنه في المجتمعات الحالية
أصبح الفقير معزولا ومهمشا في الواقع المعيش. وذلك لأن مفهوم الفقر ارتبط بالأساس
بالتنمية، حيث أصبح يعبر عنه بخط الفقر أو حد الكفاف. وهي وضعية مرتبطة بمستوى
معين من الرفاهية. لكن فما هو الحد الأدنى للرفاهية ؟ وكيف يمكن تجميع المؤشرات
لقياسها وقياس الفقر على أساسها وهذا ما ينعت بالمستوى المعيشي. وهو مفهوم يسعى
لقياس كفاءة الحياة بالاعتماد على معايير الاستهلاك الفردي من السلع والخدمات
المقتناة بواسطة دخل الفرد أو مدخراته. إذن يبدو أن مفهوم الفقر يفترض وجود حد
أدنى من الاستهلاك ومن الدخل يقاس عليه مستوى معيشة الفرد. وهذا ما يشار إليه بخط
الفقر. حيث أن كل شخص يقع دخله أو استهلاكه أقل من هذا الحد فهو يعتبر فقيرا.
وهناك في الحقيقة توجيهن لقياس الفقر توجه مالي وتوجه اجتماعي. فالتوجه الأول
يعتمد على دخل الفرد وإنفاقه الاستهلاكي. أما التوجه الثاني فيعتمد على مؤشرات غير
مالية كالتغذية والصحة. فالأول يرتكز على المؤشرات المالية للرفاهية أما الثاني
فيعتمد على المؤشرات الاجتماعية للرفاهية مثل سوء التغذية وغياب الرعاية والتعليم
والأمية والتغطية الصحية باعتبارها نتائج لانتشار الفقر.
وبذلك نجد اتجاهين اثنين في تحديد مفهوم الفقر،
اتجاه يضع حدا أدنى لمستوى الدخل الضروري. الذي يجب على كل فرد إحرازه لتحقيق ضمان
مستوى معيشي معقول وهذا تعريف مطلق. والاتجاه الثاني يعتمد على معدل توزيع الدخل
بين السكان. حيث أنه يحدد نسبة مئوية للسكان الفقراء في المجتمع وما هذا إلا تعريف
نسبي. وفي هذا الصدد تعتبر بعض الدراسات أن 50 % من سكان الدول النامية فقراء.
ومن الملاحظ أنه حتى لو ظل الدخل الفردي هو
المؤشر الأكثر انتشارا لقياس الفقر فقد تزايدت أهمية المؤشرات الاجتماعية للرفاهية
مثل الصحة والتعليم، لاسيما وأنه لوحظ منذ السبعينات ارتفاع الدخل الفردي. في جملة
من الدول النامية لكن دون حدوث تقدم في مجلات التغذية والصحة والتعليم والسكن.
والفقر في عصرنا هذا صار ظاهرة
مطلقة، حيث اعتبرت بلدان بأسرها فقيرة على أساس أن دخلها الإجمالي أقل بالمقارنة
مع الدخل السائد في تلك الدول المسيطرة على الاقتصاد العالمي. وأصبح الدخل القومي
هو المعيار العالمي المعتمد لمعالجة الفقر، وذلك من خلال زيادة الإنتاج والمزيد من
تطبيق التكنولوجيا والمعرفة التقنية، لأن مختلف آليات المجتمع وقواعد الاقتصاد
أصبحت خاضعة لآليات منظومة من المرجعيات الكونية. وثم فرض هذا الواقع عن طريق شروط
برامج المساعدات الأجنبية. ومختلف السياسات المعتمدة على هذا الفهم فشلت فشلا
ذريعا، حيث أنها لم تفعل في نهاية المطاف إلا على تعميق الفقر واتساع مداه.
إشكالية الفقر بالمغرب
يعيش المغرب حاليا مرحلة انتقالية نحو إرساء
الديمقراطية ،واعتبارا لذلك فإنه يواجه جملة من التحديات التي تستوجب أكبر قدر من
الحيطة والمرونة من أجل استمرار ضمان الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي بشكل يساعد
على تراكم شروط إقلاع اقتصادي وصيرورة تنموية مستدامة .
ومن بين هذه التحديات الفقر وتعزيز
الديمقراطية . ومهما يكن من أمر، لازال الفقر يمثل مشكلة إنسانية تؤرق العالم .
ومما يزيد الأمر سوءا أن جهود مكافحة الفقر على الصعيد العالمي محبطة . ففي
العقدين الأخيرين طبقت جملة من الدول النامية بناء على نصيحة المؤسسات المالية
الدولية ـ صندوق النقد الدولي والبنك العالمي ـ برامج الإصلاح الاقتصادي وإعادة
الهيكلة . وهي إجراءات أدت إلى انكماش الطلب الإجمالي والتخلي عن دعم الدولة لجملة
من القطاعات وتحرير الأسعار. وقد واكبت هذه الإجراءات أعراضا أثرت سلبا ومباشرة
على الفئات الفقيرة . إذ صاحب تلك السياسات ارتفاع في معدلات البطالة وتقليص فرص
العمل حتى بالنسبة للفئات المتعلمة وتدهور الدخل الفردي ( بالقيمة الحقيقية)
وارتفاع تكاليف المعيشة . وهكذا بدلا أن تؤدي تلك السياسات إلى الحد من الفقر
ساهمت في توسيع دائرته . والآن الجميع يسلم بحقيقة واضحة للعيان وهي أن الفقر أضحى
معضلة يعاني منها العالم ، والأدهى من هذا أن هذه المعضلة أصبحت تقف عقبة كأداء في
طريق الدول النامية وتعيق فئات عديدة من المواطنين نحو حياة أفضل .
والفقر في واقع الأمر لا يقتصر فقط
على مجرد عدم كفاية الدخل، بل يعني كذلك التعرض للمعاناة والحرمان من السلطة
والنفوذ ومن عدم الإحساس بالمشاركة الفعلية في صناعة القرار. وهذا ما يعني أن
التصدي للفقر يستوجب الأخذ بعين الاعتبار عوامل كثيرة سياسية واجتماعية وسياسية
وثقافية وغيرها.
ومشكلة الفقر بالمغرب ذات جذور عميقة في
المجتمع، وهي مشكلة بالغة التعقيد نظرا لكونها نتيجة لتداخل عوامل اقتصادية
واجتماعية وسياسية وثقافية وتاريخية. وقد بينت مختلف الدراسات المنجزة في هذا
الصدد أن نسبة الفقر قد ازدادت بشكل ملحوظ في السنين الأخيرة. وتتجلى مظاهر الفقر
في المجتمع المغربي من خلال تدهور المستوى المعيشي وانتشار الأمية وسوء الخدمات
الصحية وضآلة مستوى النمو الفعلي والحقيقي وزيادة معدل البطالة وتزايد الراغبين في
الهجرة بأي ثمن وانتشار ظاهرة التسول وأطفال الشوارع.
وخلاصة القول أن الفقر في المغرب لم يعد مجرد
مشكلة اقتصادية بل أصبح بمثابة محنة وطنية ذات أبعاد تتجاوز مجرد حرمان الفقراء من
الحصول على ضروريات الحياة والخدمات الأساسية، بل وصلت إلى حد حرمانهم من الفرص
الحقيقية لتحسين أحوالهم.
ويمكن كذلك تلمس مظاهر الفقر بالمغرب عبر دراسة
إشكالية المشاركة السياسية ودورها في التنمية. والمراد بالمشاركة السياسية
بمفهومها العام والبسيط هو مشاركة أعداد كبيرة من الأفراد والجماعات في الحياة
السياسية. أي ذلك النشاط الذي يقوم به المواطنون العاديون بقصد التأثير في عملية
صنع القرار السياسي. لاسيما وأن العلاقة السوية بين الدولة والمجتمع ينبغي أن تنطوي
على قدر كبير من المشاركة السياسية للمواطنين في الشؤون العامة. كلما ازدادت
المشاركة السياسية لأفراد المجتمع في الشؤون العامة كلما كان ذلك دليلا على كون
الدولة تعبر عن توجهات المجتمع وتطلعاته. علاوة على أن المشاركة السياسية تعتبر
بعدا سياسيا من أبعاد التنمية البشرية. والتنمية هي عملية متكاملة ذات أبعاد
اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، تهدف إلى تحقيق تحسن متواصل لرفاهية الأفراد،
وعن طريق التنمية يمكن إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية. والتنمية تعني
بالأساس تعزيز قدرات الناس لكي يعيشوا في بيئة صحية وأن يتزودوا بقدر من المعرفة
وأن يكون بإمكانهم الحصول على الحاجيات اللازمة لمستوى عيش لائق.
وهناك ترابط وثيق بين المشاركة
السياسية والتنمية البشرية، وبدون مشاركة فعلية يصعب تحقيق أهداف التنمية
باعبتارها عملية تهدف إلى القضاء على الفقر وإلى تدعيم كرامة الإنسان وإعمال حقوقه
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية.
لكن ما هي إمكانية المشاركة السياسية
للفئات الفقيرة؟
وحيث أن المشاركة السياسة تعني
بالأساس الاشتراك على كتب في العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية
التي تؤثر في مختلف منحى الحياة. فإن ذلك يقتضي المساهمة في صنع القرار. وما دامت
هذه المشاركة تتطلب حدا من القدرات ومن النفوذ، فإنها تتطلب كذلك درجة من التمكين
الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، أي أنها من الناحية الاقتصادية قدرة الفرد على
مزاولة نشاط اقتصادي مشروع ومن الناحية الاجتماعية الاشتراك في مختلف أشكال الحياة
الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني.
وما دامت القوة السياسية موزعة بصورة
غير متكافئة داخل المجتمع، وعدم التكافؤ هذا يحاكي توزيع القوة الاقتصادية، وبذلك
تكون مؤسسات الدولة تعمل بطريقة غير مواتية للفقراء ولانتظاراتهم وبالتالي فإن من
الأسباب الأساسية لتسهيل تمكين الفقراء من أسباب القوة يعتبر عنصرا رئيسيا في
تقليل عدد الفقراء وتمكينهم من المشاركة السياسية الفعلية.
والمشاركة تتطلب درجة من القدرات،
اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. وهذا معناه من الناحية الاقتصادية قدرة الشخص على
مزاولة نشاط اقتصادي مشروع ومن الناحية الاجتماعية الاشتراك في مختلف أشكال الحياة
الاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني ومن الناحية السياسية حرية اختيار من يمثله على
مختلف المستويات. وبالتالي فإن تطور المشاركة تظل مرتبطة بارتفاع مقدرة المواطنين
على السيطرة على مجريات حياتهم.
وبذلك يجد الفقراء أنفسهم مستبعدين
رغم عنهم من المشاركة في جوانب كثيرة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ولقد أكد جملة من الباحثين الاجتماعيين أنه في عالم تتوزع فيه القوة السياسية
بصورة غير متكافئة، غالبا ما تحاكي طريقة توزيع القوة الاقتصادية، فإن الطريقة
التي تعمل بها مؤسسات الدولة قد تكون غير مواتية للفقراء، إذ كثيرا ما لا يستفيدون
من انعكاسات الاستثمار العام، ومن التعليم والرعاية الصحية، وكثيرا ما يكونون هم
أولى ضحايا الفساد والتعسف.
كاد الفقر أن يكون كفرا
فهل فعلا يمكن إخراج البلاد من الفقر من خلال
حملات أو تبرعات ومهرجانات تحسيسية ؟ تساؤل طرح كثيرا وما زال يطرح.
إن التصدي للفقر يمر بالضرورة عبر بلورة
استراتيجية مستديمة واضحة المرامي والأهداف، تضع نصب أعينها تكريس ثقافة تخليق
الحياة العامة واحترام المال العام واجتثات جذور آليات إعادة إنتاج عوامل وأسباب
الفقر ووضع حد لمسلسل التفقير.
فكيف يمكن محاربة الفقر بواسطة تبرعات ـ مهما
عظم شأنها ـ يقدمها أناس هم الذين يساهمون في إفقار أوسع الفئات، والاقتصار على
ذلك لن يعدو أن يكون عبثا في عبث أو مجرد لعب عيال.
إن محاربة الفقر عليها أن تكون، ليس بمد يد
المساعدة لأن هذا واجب إنساني وديني عليه أن يرقى ليصبح عادة لا تحتاج لا لدعاية
ولا لحملة ولا لإشهار أو تشهير.
ولعل أول خطوة على درب التصدي للفقر تكمن في
مواجهة تهريب الأموال للخارج والتخلص من الصفقات المشبوهة والقضاء على المحسوبية
والزبونية ومحاربة الاغتناء غير المشروع والتفكير في بلورة إصلاحات جذرية ومجدية
في الميدان الاجتماعي والتفكير في ميكانزمات لإعادة توزيع الثروات الوطنية
والتخفيف من عبء الضرائب على المحتاجين وتحسين المداخل وتخفيض الأجور "
الطيطانيكية" والتخلي عن العلاوات والامتيازات غير المعقولة المرصودة لكبار
الموظفين دون غيرهم لأنه في مقدورهم أداء ثمنها، وترشيد النفقات العمومية لاسيما
تلك المرتبطة بتوفير الامتيازات وتجهيز المكاتب و الإقامات... الخ.
فهل سبق مثلا أن سمعنا أن موظفا ساميا تخلى عن
بعض الامتيازات وما أكثرها لتخصيص مقابلها المادي لما من شأنه خدمة الصالح العام؟
إن الفقر في بلادي ليس ظاهرة طبيعية وإنما معضلة
ناتجة عن اختيارات وسياسات اقتصادية واجتماعية انتهجت منذ عقود. فهناك فقر وتفقير
والتفقير هو آلية من آليات الفعل السياسي والفعل الاقتصادي والفعل الاجتماعي
والفقر يصبح آفة خطيرة وعقدة نفسية عندما يجد المرء الفقير نفسه أمام الإدارة
لقضاء مآربه أو لاجئا للقضاء لطلب حقه أو مضطرا لطلب الاستفادة من إحدى الخدمات
العلاجية أو الاجتماعية، هناك بالضبط تبدو له، وبجلاء الدلالات الحقيقية لفقره،
وهذا هو الجانب الخطير للفقر ببلادي.
فالمغرب بلد غني منتشر فيه الفقر..فيه فقراء
كثيرون ، إن الدخل الفردي المتوسط قد يصل إلى 1250 دولار إلا أن الفوارق
الاجتماعية صارخة وتزداد توسعا وتعمقا ، فالهوة تتسع باستمرار بين الفئات الأكثر
فقرا والفئات الأكثر غنى ، وهذا بادي للعيان من جراء البذخ السافر. لقد أصبح 10 %
من الساكنة يستهلكون أكثر من 13 مرة ما يستهلكه 10 % ذوي الدخل المتوسط، ناهيك عن
ذوي الدخل الضعيف وهم الذين يشكلون الأغلبية الساحقة، فلا مجال هنا للمقارنة بفعل
التباعد.
وهذا الواقع يدفع المرء دفعا للاعتقاد أن الفقر
ببلادنا ليس ظاهرة عابرة أو ظرفية أو مرحلية وإنما هو فقر بنبوي وهيكلي له آلياته:
آليات إعادة إنتاجه وتوسيع مداه وانتشار دائرته فعندنا الفقراء يلدون فقراء أكثر
فقرا والأغنياء يلدون أغنياء أكثر غناء.
إن ما يناهز 10.000.000 مغربي لا يفوق دخلهم
اليومي عشرة دراهم، و15 % من الساكنة تعيش تحت عتبة الفقر وما يقارب نصف الساكنة
يتموقع مدخولهم في حدود أقل من 500 درهم شهريا، وهذا يبين بجلاء الأهمية العددية
للفئات المهمشة والتي هي في طريق التهميش.
إذن أكثر من نصف سكان المغرب يعيشون في ظروف غير
ملائمة ولا تستجيب لمتطلبات العيش الكريم.
فالفوارق في أجور الموظفين تصل من 1 إلى 100
تقريبا.
هذه بعض المظاهر البارزة لهذه المعضلة التي
يمكنها أن تتحول إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت.
لماذا الفقر منتشر عندنا؟ قد يقول قائل لأن
الثروات ممركزة بين أيادي أقلية تهيمن على مصادر الثروات الوطنية وقد يقول آخر لأن
هناك رشوة تساهم في تضييع وضياع الحقوق وضرائب تخنق الرواتب والأجور لاسيما
المتوسطة والصغيرة منها، وقد يقول ثالث: لأن هناك نهب وسوء تدبير وإغماض العيون عن
المسؤولين الكبار وعن الفساد والاكتفاء بالتضحية بالصغار لدر الرماد في العيون،
فهناك ملايير تنهب ولم نسمع عن محاسبة رؤوس كبيرة...وكل هؤلاء القائلون يتفقون على
أنه مادام هذا هو حالنا فلن تنفع ولو آلاف عمليات التضامن والحملات والتبرعات.
وبالنسبة للغني ببلادنا...هناك أغنياء
وأغنياء...يتوفرون على كل الشروط والوسائل وما يزيد ليكونوا سعداء...أموال
وأرصدة..إقامات فاخرة...سيارات فخمة...كما أنهم في إمكانهم الحصول على ما يريدون،
لاسيما فيما يتعلق بالاستفادة من الامتيازات أو من دعم الدولة ومساعداتها..أما
فيما يخص الواجبات لاسيما أداء الضرائب وعدم الغش بصددها أو التملص من أدائها فهم
يتفننون في الأساليب المؤدية إلى غايتهم...فكيف سيستقيم الوضع وهم المستفيدون
الأوائل قبل غيرهم من مختلف مجهودات الدولة وإنجازاتها واستثماراتها وهم
المستفيدون كذلك أكثر من غيرهم من القروض الممنوحة والتسهيلات المرتبطة بها...هل
هم جبلوا على الأخذ دون عطاء حتى المفروض منه كالضرائب منها.
أغنياؤنا يعشقون الكماليات وهذا
طبيعي لأن ذلك يميزهم عن باقي خلق الله فهناك رغبة في ملكية فيلا متميزة عن
الفيلات وسيارة فاخرة متميزة عن باقي السيارات وهؤلاء يعرفون كيف يسرفون ويبذرون
ويعرفون كذلك كيف يبخلون كلما تعلق الأمر بمطالبتهم بزيادة أجور عمالهم أو بأداء
الضرائب أو المشاركة في التضامن.
إن برجوازيتنا برجوازية المظاهر وليست فعلا
برجوازية عقيدة مرتبط بالمقاولة والمبادرة لأنه أصلا هي برجوازية غير مقاولة قامت
بأدوار الوساطة والسمسرة والارتشاء والاستفادة من الامتيازات السهلة دون بذل
مجهودات مما جعلها برجوازية طفيلية أو ّّ طيف " برجوازية.
هذا في وقت مطلوب منهم، في هذا الظرف بالذات،
القيام بواجباتهم كاملة غير منقوصة، لاسيما أن يضعوا أيديهم في جيوبهم ويساهمون
عمليا في المجهودات التنموية ويدعمون الخدمات الاجتماعية ويشاركون في تطوير الفن
والثقافة ويقبلون بصدر رحب إعادة توزيع الثروات لإعادة ربط المواطن بوطنه. فالخروج
من الأزمة يحتاج إلى أموال، والأموال في حوزة الأغنياء، والبلاد بلادهم وهي في
حاجة إليهم، فلا يخفى على أحد أن هناك أغنياء ببلادنا وأموال مكدسة...كدست في فترة
غابت فيها الديمقراطية وسادت فيها المحسوبية وأنظمة الو لاءات والامتيازات
والعطاءات وغض الطرف.
فبلادنا تسير بسرعتين وبإيقاعين: هناك إيقاع
الفقر السائر نحو التعميق والانتشار وإيقاع الغنى السائر نحو التمركز وتضخم
الثروات، وهذا واقع يجعل المرء يحس أن الحكومة لا تعمل لصالح الشعب وإنما لصالح
فئات محدودة، لقد أصبح البحث عن " كسرة " الخبز الشغل الشاغل لأغلب
المغاربة وهمهم اليومي وما هذا الوضع إلا نتاج لسياسات وبنيات اقتصادية وسياسية
مجحفة وغير عادلة انتهجت منذ عقود، فإذا كانت الليبرالية، هي ليبرالية المتضاربين
وأصحاب الامتيازات، ليبرالية كثرة الفقراء وقلة قليلة من أصحاب الملايير والملايين
فهي ليبرالية لا مناص من التصدي إليها لأنها أظهرت على نتيجتها بما فيه الكفاية
وزيادة.
فئات واسعة من المواطنين يعانون الأمرين من أجل
توفير ما يسدون به رمقهم إلى حد أن معدتهم أصبحت شغلهم الشاغل، وهذه الفئات هي
الآن في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة ثقتها بنفسها ويغذها، ولاسيما وأنها
أصبحت في حيرة من أمرها بين الحاجة إلى الخبز وبين توقها للكرامة والكبرياء، وهذا
وضع يجعلها هلامية سريعة التبدل تؤثر فيها عوامل نفعية بسيطة، فهل هؤلاء يمكن
إقناعهم بأن مشاركتهم في الشأن العام مسألة ذات أولية حيوية في الظرف الراهن؟
ألم يؤكد المحللون الاجتماعيون عبر التاريخ أن الفقر
والظلم الاجتماعي يشكلان تربة خصبة لمختلف أنواع التطرف ؟
أجور ورواتب لا تفي بالحد الأدنى لضمان لقمة
العيش تحيل العمال وأغلب الموظفين إلى أشباه محتاجين، فقراء رغما عن الإحصائيات.
فبراتب أقل من 2000.00 درهم لا يمكن أن يسعف أي
حساب، فلولا التضامن العائلي لامتلأت الشوارع بالمتسكعين، بفضل التضامن الأسري
الجميع يساهم والجميع يأكل.
فمن المعلوم ببلادنا أنها تفتقد لسياسة شاملة
لمحاربة الفقر، مرتكزة على استراتيجية واضحة المعالم، وغنما هناك سياسات قطاعية:
سياسة محو الأمية وتعميم التعليم، سياسية النهوض بالعالم القروي، سياسة النهوض
بدور المرأة في المجتمع، سياسة التشغيل، سياسة تنمية البادية، سياسة الأجور
السياسة الضريبية..لكنها كلها ساهمت بشكل أو بآخر في إنتاج وإعادة إنتاج آلية
التفقير وليس التصدي للفقر.
هكذا ظل مسلسل التفقير سائرا بدون توقف ووصل إلى
حد أصبحت معه فئات وسطى واسعة تلتحق بدائرة الفقر.
ولعل أول خطوة على درب التصدي لهذا المسلسل تكمن
بدءا في تدبير أفضل لموارد البلاد والقضاء على مظاهر التلاعب واستغلال النفوذ
والتقليل من التفاوتات لاسيما فيما يتعلق بتوزيع الثروات ومنح الامتيازات، علما
أنه لا مناص من بلورة استراتيجية واضحة المعالم والآليات للتصدي للفقر ومسلسله.
رأي في الوضع الاجتماعي الراهن
إذا كانت أوضاع حقوق الإنسان ببلادنا قد عاينت
تحسنا ملحوظا فيما يخص ثلة من الحقوق المدنية والسياسية، فإن الحقوق الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية قد عرفت تدهورا لم يسبق له مثيل، وهذا ما ساهم في تفويض بعض
أسس تشييد مجتمع المواطنة والديمقراطية ببرلمان منتخب بصفة نزيهة وقيام حكومة
منبثقة من الإرادة الشعبية.
إن التناقض الرئيسي الفاعل اليوم في المغرب هو
التناقض الحاصل بين الذين يريدون الديمقراطية الحقة عبر مرحلة انتقالية توافقية مع
القصر الملكي وبين من هم خارج هذه الدائرة. فالطرف الأول يضم الحكومة ومن يساندها
وبعض من يعارضها والنقابات حتى ولو أن لها مآخذ على الحكومة. كل هؤلاء مع ذلك
الانتقال ومتطلباته، ويعتبر البعض أن من خارج هذه الدائرة هو ضد الديمقراطية، وهذا
رأي يريد حصر الذين يخدمون حركية الانتقال إلى الديمقراطية في الحكومة ومن يدعمها.
فإذا كانت مسألة الديمقراطية هي التي تمثل حاليا
التناقض الأساسي، فإن الانتقال الديمقراطي يشكل التناقض الرئيسي، وهو الذي يحرك
حاليا مختلف الآليات المجتمعية. هذا على مستوى التحليل النظري العام الذي يصبو إلى
محاولة فهم الحركية المجتمعية في كليتها وشموليتها في إطار انسياقها مع الصيرورة
التاريخية.
أما على صعيد ركح الواقع المعيش فالأمر يبدو
أكثر تعقيدا، فرغم كل ما يقال عن ما تم تحقيقه والخطوات المهمة المنجزة على درب
تكريس التغيير، فلا زلنا نعاين بجلاء أن كل من لم يتما هي مع السلطة بالطريقة التي
تريد تعرض للنفي داخل بلاده وتحت شمسها، سواء في مجاهل أو قطاعه أو مهمته، ولازال
المغاربة يعانون الكثير من هذه العقلية لاسيما أولئك الذين يرفضون سلوك طريق
المحاباة والمجاملة.
إن كل الفعاليات النقابية والفاعلين الاجتماعيين
ظلوا ينتظرون فعل الحكومة وانعكاساته على الركح الاجتماعي، لاسيما وأن الوضعية
معروفة والملفات واضحة بما فيه الكفاية والوزراء على إطلاع كاف بمضامينها، علما أن
أغلبهم سايروها تحليلا وتفسيرا واقتراحا لحلولها، انطلاقا من موقعهم عندما كانوا،
بالأمس القريب، معارضين وحينما كانوا يطبقون قاعدة: التحليل الملموس للواقع
الملموس.
لكن الانتظار طال إلى حد أن كل الأوساط أضحت
تعيش في حذر وترقب شديد. وقد زاد من الحيرة والحذر كون أن بعض الممارسات لازالت
قائمة. كالسابق فيما يخص طريقة ونهج التصدي للنضالات في مختلف القطاعات دفاعا عن
المطالب المشروعة. التي ما فتئ يطالب بها الجميع بأساليب حضارية منظمة ومضبوطة،
والأمثلة كثيرة في هذا الصدد، في البيضاء والرباط وسلا وأكادير والعيون وجرادة
ومدن أخرى...قطاعات كثيرة علقت آمالها على الحكومة، وهناك منها من أرجأ حركاته
النضالية والمطلبية الدفاعية في انتظار تمكين الحكومة من الوقت اللازم للالتفات
إلى الجانب الاجتماعي، إلى حد أن الوضعية أضحت لا تطاق، والمشاكل لم تزد إلا
استفحالا.
فالنقابات العمالية... ملفاتها جاهزة ومشاكلها
معلومة ومعروفة ومطالبها واضحة، وكذلك الأمر بالنسبة للتنظيمات القطاعية. مل
العاطلون والمعطلون الاعتراف بوجودهم واعتبار مأساتهم. وتعشم مظلو مي النظام
القضائي من الحكومة خيرا، لاسيما منهم الموظفون الصغار أرباب العائلات حيث كان
أملهم كبيرا في شجاعة الحكومة للنظر في إشكاليتهم بموضوعية وإنصاف رجاء في انتشالهم
من الضياع. وفي ظل الانتظار الذي طال، عاين الجميع على صعيد الركح الاجتماعي
اندحار القدرة الشرائية لأوسع الفئات والأغلبية الساحقة للمواطنين وتفشي البطالة
واتساع مداها واستفحال ظاهرة الهجرة السرية والمخاطرة بالنفس.
إن البطون الجائعة والأجساد المعرضة للمرض في أي
لحظة، والتي لا ضمانة لها في التغطية الصحية، والعقول المسكونة بعدم الاطمئنان عن
القريب، لا يمكنها أن تعيش بالديمقراطية الصرفة، لأنه لا مندوحة من توفر حد أدنى
مقبول للعيش لتسهيل توفير شرط انتعاش التوق للغد والاطمئنان عن المستقبل وبذلك
تتأتى إمكانية المشاركة في اللعبة السياسية كفعل لتجسيد المواطنة.
من المميزات الأساسية، والحاضرة بقوة، للواقع
الحالي لبلادنا، أن فئات الشباب غير راضية بتاتا عن الوضع في ظل غياب قوة أو قطب
معبئ للجماهير في اتجاه الغد وإعدادهم ابتداء من اليوم، إذا لم يكن من المفروض أن
يكون البارحة، أن أزيد من 60 % من الساكنة شباب يعيشون في أوضاع مزرية..يأس وبطالة
وتهميش ومواجهة الموت ببطء بدون جدوى في التطلع للغد القريب، البعيد.. طاقات حيوية
تضيع هباء منثورا بفعل استفحال الأزمات على أكثر من صعيد ومستوى. وأكثر من 80 % من
الشباب يفكرون في الهجرة هروبا من هذا الواقع حتى ولو كلفهم ذلك حياتهم التي أضحت
بدون قيمة في مجتمع لا حول ولا قوة له لإدماجهم وتمكين اندماجهم في حركيته
الاجتماعية.
إن الشباب المغربي حاليا، انطلاقا من واقعهم
وانطلاقا من عدم توفرهم على مكان تحت شمس وطنهم يتساءلون: أين هو تحديث المجال
السياسي وتطوير آليات المشاركة في اتخاذ القرار والحد من النفوذ المخزني في
الإدارة والاقتصاد ؟ وأين هو مبدأ الاعتماد على الشفافية ؟ وأين هي المحاسبة
والمساءلة في تحمل المسؤولية ؟
لقد عانت البلاد من تفويت عدد من المواعد مع
التاريخ حيث أنها أخلفت أكثر من موعد. كما فوتت فرص انخراط الفعاليات في قلب
دينامكية المجتمع، ولم يعد حاليا محتملا تفويت فرص أخرى وإلا سنحكم على أنفسنا
بالتخلف النهائي عن الركب.
الحصيلة واضحة لا غبار عليها: خيبة أمل وتضييع
المواعد مع التاريخ، والخسارة بدأت تظهر نتيجتها..انحسار دور وتأثير الأحزاب
الوطنية وسط المجتمع وقواه الحية، وهي الأحزاب المعول عليها لتفعيل وإعمال سيرورة
التغيير.
والآن وقد ظهر المعنى، فلا فائدة في
التكرار...فعلى تلك الأحزاب أن تفكر جيدا في إنقاد الموقف ولو على مستوى الحفاظ
على " دم الوجه" ولعل أسهل الطرق لبلوغ هذا المرمى. إعادة طرح التساؤل
حول الإصلاح العام الذي يمر بالضرورة عبر إصلاح دستوري وسياسي يرمي إلى تحقيق
التوازن الطبيعي بين المؤسسات، وإلى تقوية سلط البرلمان والحكومة وصلابة أساس
استقلالية القضاء وتقليص صلاحيات وسلطات الولاة والعمال وتمكين الجهوية الحقة من
رؤية النور، ويبدو أن هذا المسار هو الأفضل والأضمن حاليا للقضاء على الخوف من
الغد القريب، البعيد، هناك رأي عام بتنازعه آمال غير محدودة وتحركه طموحات تبحث عن
مستقبل، لكن ما زالت هناك إحباطات ومثبطات كثيرة، وكثرتها وسرعة وثيرة تراكمه تكاد
أن تأتيان على هذه الآمال، وإذا استمر ذلك ـ لا قدر الله ـ فلا يمكن الانتظار إلا
الويلات.
والمطلوب الآن وباستعجال هو بعث الأمل في نفوس
المواطنين واستعادة التفاؤل للمقاولين والحرفيين والعمال لأن الجميع سلم الخطابات
الفارغة والتسويفات والوعود بمستقبل قد لا يسعهم القدر على معاينته. فعلى الحكومة
أن تتبنى توجها سياسيا محددا، وأن تهدف إلى ترسيخ مشروع مجتمعي معين ومعلوم، وعلى
المجتمع المدني تقديم رؤية نقدية للمشاريع المطروحة ومحاولة بلورة البدائل
الممكنة، لخلق دينامكية جديدة للحياة المجتمعية تواقة لمستقبل أفضل.
إلى أين نسير ؟
ما زلنا نعاين " تمخمخ " أقلية قليلة
على حساب أكثرية كثيرة، هذه الأقلية التي لازالت تحقق مصالحها وتنميها على حساب
مصالح أوسع الفئات المستضعفة.
وتزداد هذه الوضعية سلبية عندما نلاحظ أن
استفادة هذه الأقلية لا تدخل في إطار ورشة تنمية البلاد، لأنها أقلية ما زالت
منبهرة بمصائد الاستهلاك التي تبدد الثروة الوطنية على الكماليات والإنفاق غير
المنتج. ولا يخفى على أحد أن هناك فوارق اجتماعية صارخة من شأنها أن تدكي الأحقاد
والضغائن، فالذين لا يملكون ما يسدون به رمقهم يحقدون والذين يملكون الثروات
يخافون عل مصالحهم ومواقعهم وأموالهم، وهذه وضعية غير صحية لا يمكن أن نتصور معها
إمكانية تحول ديمقراطي فعلي لذا فمن من الطبيعي جدا وجود من يقف في وجه هذا التحول
لأن هناك أناسا حققوا مصالح وثروات في ظل الأوضاع والظروف السياسية والاقتصادية
التي عرفتها البلاد سابقا. والحكومات السابقة هي المسؤولة الأولى عن هذه الوضعية
لأنها هي تولت مسؤولية التنمية سواء بوعيها هي لأهمية التنمية أو بتوعيتها لمختلف
الفعاليات والفعلين، ولأن من أهم مسؤولياتها كذلك الاهتمام بنهضة المجتمع وتحسين
أوضاع المواطنين. وتحت أنظارها وعلى امتداد عقود من الزمن تكاثرت المعضلات
الاجتماعية من جراء عدم ربط عملية التنمية بحل المشاكل الاجتماعية أو تحقيق إدماج
الفئات غير القادرة والمهمشة وتمكينها من التكيف مع البيئة الاقتصادية عبر التصدي
لأسباب الخلل والمعوقات.
لكن هناك فرق بين التنمية في الخطاب
المروج إلى حد الآن وبين التنمية الجارية فعلا على أرض الواقع ويعتقد البعض أن سبب
ذلك يكمن في تخوف ذوي الثروات وأصحاب المواقع والمصالح من إعادة توزيع الثروات
الوطنية والثروات المضافة من أجل ضمان استفادة أوسع الفئات بطريقة تساهم في خدمة
استمرار الصيرورة التنموية الشاملة والمستديمة.
لقد ثبت بالمعاينة وبملامسة النتائج
والخيارات التنموية التي تحكم سلوك المرء بتغيير الملابس في كل وقت وحين والسيارات
وأمور أخرى تبعا لما تنتجه الشركات الغربية هي خيارات لا يمكنها ضمان استمرارية
الصيرورة التنموية الشاملة والمستديمة.
وإذا كانت التنمية هي عملية توسيع خيارات
المواطن فإن تلك الخيارات لابد وأن تنبثق من المجتمع ومن متطلباته.
فهل التنمية تقوم على تكوين الإنسان
وإعداده عن طريق تحسين سبل المعرفة والصحة والمهارات لتمكينه من الحصول على موقع
ضمن المجتمع يضمن من خلاله الموارد اللازمة لعيش كريم، أم أن التنمية هي مجرد
استخدام القدرات والموارد البشرية والمادية لأغراض إنتاجية وترويجية تصب في المزيد
من اختلال توزيع الثروات تصب في المزيد من اختلال توزيع الثروات وتعميق الهوة بين
الأكثر غناء والأكثر فقرا؟
إن مجرد طرح هذا التساؤل يفزع المرء
ويرعبه فما باله إذا كان يعايش يوميا النتائج الملموسة لاستراتيجية التنمية
المنتهجة ببلادنا إلى حد الآن إذن فلا بد لنا أن نعرف أين نحن سائرون وعن بينة،
لأننا نعيش في عصر مطبوع بالتسارع التاريخي ولا يمكن معه التفريط في أي موعد مع
التاريخ لأن وقوع ذلك سيجعلنا نتخلف عن الركب.
المجال الاجتماعي: معيار الإحساس بالتغيير
يتميز الظرف الحالي باختلالات بعضها هيكلية
لازالت تغدي الأزمة المعيقة لتنمية البلاد ونموها، وتؤدي الأغلبية الساحقة للشعب
المغربي ثمنها غاليا آنيا ومستقبليا.
وإذا كانت الوضعية الحالية تركة ونتيجة موضوعية
لتصور " اترك الأمور تسير على ما هي عليه" فإن الظرف الحالي يفرض تمكين
البلاد من ولوج العصر من بابه الواسع لضمان القدرة الكافية على مواجهة التحديات
الكبرى داخليا وخارجيا، وإذا كان الهاجس الأمني والرغبة في استدامة الحال على ما
هو عليه دون إرادة فعلية للتغيير قد أصبحا من عداد الماضي فإن الواقع الحالي ما
يدعو إلى ضرورة خلق مناخ سياسي مغاير، مناخ يسمح بالتعبئة الشاملة لكافة الفعاليات
لإنجاز وتحقيق التغيير المطلوب.
لقد عايش المواطن إخفاق المبادرات والتدابير
المبنية على توجيهات وإشارات المؤسسات المالية الدولية والتي ساهمت، في غياب الانسجام
بين التحديث والتأهيل وإعادة الهيكلة، وفي استمرار البنيات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية الحامية لمختلف قطاعات الريع والأنشطة الطفيلية كما عايش انعكاسات
مختلف السياسات المطبوعة " بالهاجس المحاسباتي " والتي تولي الأولوية
للتوازنات المالية على حساب التوازنات المالية على حساب التوازنات الاقتصادية
والاجتماعية وتلك المرتبطة بمتطلبات التنمية المستديمة، إن الفاتورة أدتها ولازالت
تؤديها الفئات الاجتماعية المستضعفة والفقيرة بمزيد من الفقر والحرمان والتهميش
والحيف والبطالة وانسداد الآفاق.
إن تراكمات السياسات السابقة زادت من
تعميق الأزمة في وقت انضافت إليها إكراهات الحاضر القوية مما جعل الفقر يتفاقم
وتتسع دائرته، والتفاوتات الاجتماعية تتعمق ومعاناة المواطن تزداد حدة على حدة.
فقر منتشر وبطالة متفشية..فعاليات تقنية ومهنية
معطلة في حين ما زالت بلادنا تعيش نقصا في الأطر سواء على صعيد الميادين أو
المناطق والجهات.
كان من الممكن للمرء أن يرتاح لكثرة حاملي
الشواهد المعطلين لو كانت البلاد لها ما يكفيها من الأطباء والمهندسين والتقنيين
لكن الأمر عكس ذلك، فهي لازالت في حاجة لمثل هؤلاء الأطر..هكذا تتجلى المفارقة:
بلاد في حاجة لأطر وأطر يناضلون منذ سنوات لتأمين مكان تحت الشمس في مجتمع ينشد
التنمية وهذا واقع يمكن تفسير جانب منه كنتاج لما زرع من قبل.
من الأكيد أن مسلسل التغيير يصادف عراقيل كثيرة
من جراء ثقل إرث السياسات السابقة، عراقيل تتخذ مظاهر مختلفة:
ـ ارتباط الاقتصاد بالظروف المناخية
والتقلبات الطارئة في الظرفية الاقتصادية العالمية.
ـ ضعف الادخار وضخامة العراقيل
القانونية والمؤسساتية والإدارية الخانقة لمبادرات الاستثمار.
ـ ثقل الديون العامة.
ـ ضعف تأخر تأهيل المقاولة المغربية.
ـ ضعف التنافسية المجدية والإنتاجية
وتقادم وسائل الإنتاج والبنيات التحتية.
ـ تفاقم المعضلات الاجتماعية من جراء
تجاهل المجال الاجتماعي منذ سنين خلت.