المقدمة :
الحمد الله .. نحمده و نستعينه و نستغفره ,
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن
يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم . وبعد .
إن
الاهتمام بالقلب و تزكيته من الاهتميه بمكان ، بل من الاساسيات في ديننا الحنيف ،
فقد علق سبحانه وتعالى الفلاح والفوز يوم القيامه على سلامه القلب . فقال سبحانه
وتعالى :-
( يوم
لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا أتى الله بقلب سليم )
ولذا كان
الاهتمام بتزكيه القلب شغل العلماء الشاغل ، ومن هؤلاء الافاضل ، الإمام ابن قدامه
المقدسي ، فقد صنف كتابه المانع وهو من الكتب التي تخاطب القلوب ، وقد اشتمل على
الكثير من الآيات البينات , والأحاديث النيرات , وقصائد , وحكايات , ورقائق وعظيات
, ومناقب الصالحين , وذكر الشيوخ العارفين , وتذكر أهل الذنوب والآثام , وإيقاظهم
من الغفلة والمنام , فتعالوا بنا لنتعايش بقلوبنا مع هذا الكتاب الفريد , وأسأل
الله عز وجل أن يرزقنا خشيته في السر والعلانية, وأن يجعل تلك الخشية حادياً لنا
للنجاة من النيران والفوز بالجنان, والنظر إلى وجه الرحيم الرحمن .. إنه ولى ذلك
والقادر عليه .. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
الموضوع :
الرجاء و الخوف :
أعلم : أن الرجاء والخوف جناحان , بهما يطير
المقربون إلى كل مقام محمود , و مطيتان
بهما يقطع من طريق الآخرة كل عقبة كؤود , و لا بد من بيان حقيقتهما
وفضيلتهما وسببهما.
الأول : في الرجاء .
الثاني : في الخوف .
الشطر الأول : الرجاء:
وأعلم: أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال
الطالبين , وإنما يسمى الوصف مقاماً إذا ثبت وأقام .
واعلم: أن كل ما يلاقيك من محبوب أو مكروه ينقسم إلى
موجود في الحال , و إلى موجود فيما مضى.
فالأول: يسمى وجداً وذوقاً وإدراكاً.
والثاني:
يسمي ذكرا، وإن كان قد خطر ببالك شيء في الاستقبال، وغلب على قلبك، سمى انتظارا
وتوقعا،ٌفإن كان المنتظر محبوبا،سمى رجاء، وإن كان مكروها،سمى خوفا .
فالرجاء:
هو ارتياح لانتظار ماهو محبوب عنده ، ولكن ذلك المتوقع لابد له من سبب حاصل، فإن
لم يكن السبب معلوم الوجود ولا معلوم الانتفاء، سمى تمنيا ، لأنه انتظار من غير
سبب. ولايطلق اسم الرجاء والخوف إلا على مايتردد فيه، فأما مايقطع به فلا، إذا لا
يقال: أرجو طلوع الشمس وأخاف غروبها، ولكن يقال: أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه .
وقد علم
أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة ، والقلب كالأرض ، والإيمان كالبذر فيه ،
والطاعات جارية محرى تنقية الأرض وتطهيرها ، ومجرى حفر الأنهار ومساقي الماء
إليها. وإن القلب المستغرق بالدنيا، كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر.
ويوم
القيامة هو يوم الحصاد، ولا يحصد أحد إلا مازرع ، ولاينمو زرع إلا من بذر الإيمان
، وقل أن ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقة ، كما لاينمو البذر في الأرض
السبخة.
فينبغي
أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع ، فكل من طلب أرضا طيبة، وألقي فيها
بذرا جيدا غير مسوس ولا عفن، ثم ساق إليها في اوقات الحاجة، ونفى الأرض من الشوك
والحشيش وما يفسد الزرع ، ثم جلس ينتظر من فضل الله تعالي دفع الصواعق والآفات
المفسدة،إلي أن يتم الزرع ويبلغ غايته، فهذا يسمي انتظاره رجاء.
وإن بث البذر في أرض طيبة، ولكن لا ماء لها ، وأخذ ينتظر
مياه الأمطار سمى انتظاره غيبا لارجاء .
فإذن
اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت أسبابه الداخلية تحت اختيار العبد،
ولم يبق الإ ماليس إلي اختياره ، وهو فضل الله سبحانه بصرف الموانع المفسدات ،
فالعبد إذا بث بذر الإيمان ، وسقاه ماء الطاعات، وطهر القلب من شوك الأخلاق
الرديئة ، وانتظر من فضل الله تعالي تثبيته على ذلك إلي الموت ، وحسن الخاتمة
المفضية إلي المغفرة ، كان انتظاره لذلك رجاء محمودا باعثا على المواظبة على
الطاعات والقيام بمقتضي الإيمان إلي الموت ، وإان قطع بذر الإيمان عن تعهده بماء
الطاعات أو ترك القلب مشحونا براذائل الأخلاق ، وانهمك في طلب لذات الدنيا، ثم
انتظر المغفرة ، كان ذلك حمقا وغرورا ، وقال الله تعالي: (
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون
عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا )
<الأعراف :169 > وذم القائل: (ولئن رددت إلي
ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) <الكهف : 36 >.
وروى
شداد بن أوس، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اليس
من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هوها ، وتمنى على الله عز
وجل الأماني )) <1> .
وقال
معروف الكرخى رحمه الله : رجاؤك لرحمة من لاتطيعه خذلان وحمق ولذلك قال الله تعالى
: (إن الذين امنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله
أولئك يرجون رحمت الله ) <البقرة:218>.
المعنى : أولئك
الذين يستحقون أن يرجوا ، ولم يرد به تخصيص وجود الرجاء، لأن غيرهم أيضا قد يرجو
ذلك .
واعلم : أن
الرجاء محمود ، لأنه باعث على العمل ، واليأس مذموم ، لأنه صارف عن العمل، إذ من
عرف أن الأرض سبخة ، وأن الماء مغور ، وأن البذر لاينبت ، ترك تفقد الأرض ، ولم
يتعب في تعاهدها.
وأما الخوف ، فليس بضد الرجاء، بل رفيق له ، كما سيأتي
بيانه إن الله تعالي،
وحال
الرجاء يورث طريق المجاهدة بالأعمال ، والموظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال ،
ومن آثار التلذذ بدوام الإقبال على الله عز وجل ، والتنعم بمناجاته ، والتلطف فى
الملق له ، فإن هذه الأحوال لابد أن تظهر على كل من يرجو ملكا من الملوك ، أو شخصا
من الأشخاص ، فكيف لا يظهر ذلك في حق الله سبحانه وتعالي ؟ فمتي لم يظهر ، استدل
به على حرمان مقام الرجاء فمن رجا أن يكون مرادا بالخير من غير هذه العلامات فهو
مغرور .
فصل (في فضيلة
الرجاء )
روى فى
(( الصحيحين )) من حديث أبي هريرة رضى الله عنه ، عن النبى صلى الله عليه وأله
وسلم أنه قال : (( قال الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي
)) <1> وفى راوية أخرى : (( فليظن بي ما شاء
))<2> .
وفى حديث آخر من
راوية مسلم : أن النبى صلى الله وعليه وآله وسلم قال : ((
لايموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ))<3> .
وأوحى الله تعالي إلي داود عليه وسلم :أحبنى ، وأحب من
يحبنى ، وحببني إلي خلقى قال : رب: كيف أحببك إلي خلفك؟ قال : اذكرنى بالحسن
الجميل، واذكر آلائى وإحسانى . وعن مجاهد رحمه الله قال : يؤمر بالعبد يوم القيامة
إلي نار ، فيقول : ماكان هذا ظنى فيقول : ماكان ظنك؟ فيقول : أن تغفر لى ، فيقول :
خلوا سبيله .
فصل ( في داوء الرجاء والسبب الذي يحصل به )
اعلم : أن دواء الرجاء
يحتاج إليه رجلان :
إما رجل قد غلب عليه اليأس حتى
ترك العبادة .
وأما رجل غلب عليه الخوف حتى
أضر بنفسه وأهله .
فأما العاصى المغرور المتمنى على الله مع الإعراض عن
العبادة ، فلا ينبغى أن يستعمل فى حقه إلا أدوية الخوف ، فإن أدوية الرجاء تقلب في
حقه سموما ، كما أن العسل شفاء لمن غلبت عليه البرودة ، مضر لمن غلبت عليه الحرارة
.
ولهذا يجب أن يكون واعظ الناس متلطفا ، ناظرا إلي مواضع
العلل ، معالجا كل علة بما يليق بها ، وهذا الزمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع
الخلق أسباب الرجاء ، بل المبالغة فى التخويف ، وإنما يذكر الواعظ فضيلة أسباب
الرجاء إذا كان مقصورده استمالة القلوب إليه،لإصلاح المرضى .
وقد قال على رضي الله عنه :
إنما العلم الذى لا يقنط الناس من رحمة الله ، ولا يؤمنهم مكر الله.
إذا عرفت هذا ،فأعلم أن من أسباب الرجاء ، ماهو طريق
الاعتبار ، ومنها ماهو طريق الأخبار ، أما الأعتبار ، فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه
منأصناف النعم في كتاب الشكر ، فإذا علم لطائف الله تعالي بعابه في الدنيا ،
وعجائب حكمته التى راعاها فى قطرة الإنسان ، وأن لطفه الإلهى لم يقصر عن عباده في
دقايق مصالحهم في الدنيا ، ولم يرض أن تفوتهم الزيادات في الرتبة ، فكيف يرضى
سياقتهم إلي الهلاك المؤبد ؟! فإن من لطف في الدنيا يلطف فى الأخرة ، لأن مدبر
الدارين واحد
واما استقراء الايات والاخبار ، فمن ذلك قوله سبحانه
وتعالى : ( قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا
تقنطوا من رحمة اللع ان الله يغفر الذنوب جميعا )( الزمر 53) وقال تعالى (
والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الارض ) ( الشورى 5 )
واخبر تعالى انه وعد النار لاعدائه وانما خوف بها اولياءه
، فقال ( لهم من فوقهم طلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك
يخوف الله به عباده ) (الزمر:16)وقال تعالى ( واتقوا النار التى اعدت للكافرين ) (ال
عمران :131) وقال : (فأنذرتكم نارا تلطى (14) لا يصلاها
إلا الأشقى (15) الذي كذب وتولي ) ( الليل :14-16) وقال تعالي : ( وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ) (الرعد :6) .
ومن الأخبار ماروى أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه ،قال
:سمعت رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم يقول : (( إن
إبليس قال لربه عز وجل :بعزتك وجلالك ، لاأبوح أغوى بنى آدم مادامت الأرواح فيهم ،
فقال الله عز وجل : فبعزتى وجلالى ، لا أبوح أغفر لهم ما استغفرونى )) <1>
.
(( والذى نفسى بيده ، لو لم
تذنبوا ، لذهب الله بكم ، ولجاء بقول يذنبون ، فيستغفرون فيغفر لهم )) رواه
مسلم <2>.
وفي (( الصحيحين )) من حديث عائشة رضى الله عنها ، أن
النبى صلى الله عليه وآله وسلم قال: (( سددوا وقاربوا
وأبشروا ،؟ فإنه لن يدخل أحد الجنة عمله ،قالوا : ولا أنت يارسول الله ؟قال :
ولاأنا ، إلا أن يتغمدنى الله منه برحمته )) <3>.
وروى أن مجوسيا استضاف إبراهيم الخليل عليه السلام فلم
يضفه وقال : إن أسلمت ، أضفتك ، فأوحى الله تعالي إليه : ياإبراهيم منذ تسعين سنة
أطعمه على كفره ، فعسى إبراهيم عليه السلام خلفه ، فرده وأخبره في الحال، فتعجب من
لطف الله تعالي ، فأسلم.
فهذه الأسباب التى تجتلب بها روح الرجاء إلي قلوب
الخائفين واليائسين ، فأما الحمقى فأن أكثر الناس لايصلحون إلا على ذلك ، كعبد
السوء الذى لا يستقيم إلا بالعصا.
الشرط الثاني من
الكتاب: في الخوف وحقيقته وبيان درجاته وغير ذلك
اعلم :أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكوره
في الاستقبال .
مثال
ذلك ، من جنى على ملك جناية ، ثم وقع في يده ، فهو يخاف القتل ، ويجوز العفو ،
ولكن يكون تألم قلبه بحسب قوة علمه بالأسباب المفضية إلي قتله ، وتفاحش جنايته ،
وتأثيرها عند الملك ، وبحسب ضعف الأسباب يضعف الخوف . وقد يكون الخوف لا عن سبب
جنابة ، بل عن صفة المخوف وعظمته وجلاله ، إذ قد علم أن الله سبحانه، لو أهلك
العالمين لم يبال ،ولم يمنعه مانع ، فبحسب معرفة الإنسان بعيوب نفسه ،وبجلال الله
تعالى واستغنائه، وأنه لا يسأل عما يفعل ، يكون خوفه.وأخوف الناس أعرفهم بنفسه
وبربه، ولذلك قال النبى صلى الله عليه وآله وسلم: ((أنا
أعرفكم بالله ، وأشدكم له خشية ))<1> وقال تعالى : (إنما بخشى الله من عباده العلماء ) <فاطر:28> وإذا
كملت المعرفة، أثرت الخوف ، ففاض على
القلب ، ثم ظهر على الجوارح والصفات بالتحول والاصفرار والبكاء والغشى ،وقد يفضى
إلي الموت، وقد يصعد إلي الدماغ فيفسد العقل.
وأما
ظهور على الجوارح ، فبكفها عن المعاصى ، وإلزامها الطاعات، تلافيا لما فرط،
واستعدادا للمستقبل.
قال بعضهم: من خاف أدلج. وقال آخر : ليس الخائف من بكى ،
إنما الخائف من ترك ما يقدر عليه.
ومن
ثمرات الخوف، أنه يقمع الشهوات، ويكدر اللذات ، فتصير المعاصى المحبوبة عنده
مكروهة، كما يصير العسل مكروها عند من يشتهيه إذا علم أن فيه سما، فتحترق الشهوات
بالخوف، وتتأدب الجوارح ،ويذل القلب ويستكين ، ويفارقه الكبر والحقد والحسد، ويصير
مستوعب الهم لخوفه ، والنظر في خطر عاقبته ،فلا يتفرغ لغيره، ولايكون له شغل إلا
المراقبة والمحاسبة ، والمجاهدة، والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤأخذة النفس في
الخطوات والخطوات والكلمات ، ويكون حاله كحال من وقع في مخالب سبع ضار لايدري أيغفل عنه فيفلت،أو يهجم عليه فيهلكه،
ولا شغل له إلا ما وقع فيه ، فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف ، وقوة الخوف
بحسب قوة بجلال الله تعالى ، وصفاته، وبعيوب النفس ومابين يديها من الأخطار
والأهوال.
وأقل
درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال ، أن يمنع المحظورات ، فإن منع مايتطوق إليه
إمكان التحريم ، سمى ورعا ، وإن انضم إليه التجرد والاشتغال بذلك عن فضول العيش
فهو الصدق.
فصل ( الخوف سوط
الله تعالى)
اعلم :أن
الخوف سوط الله تعالى يسوق به عباده إلي المواظبة على العلم والعمل، لينالوا بهما
رتبة القرب من الله تعالى.
والخوف، له إفراط ، وله اعتدال ، وله قصور .
وأما
القسم الأول ، وهو الخوف المفرط ، فهو كالذى يقوى ويجاوز حد الاعتدال حتى يخرج إلي
اليأس والقنوط ، فهو أيضا مذموم ، لأنه يمنع من العمل ، وقد يخرج المرض والوله
والموت ، وليس ذلك محمودا ، وكل مايراد لأمر، وفائدة الخوف الحذر ، والورع،
والتقوى ، والمجاهدة والفكر ، والذكر والتعبد وسائر الأسباب التى توصل إلي الله
تعالى ، وكل ذلك يستدعى الحياة ، مع صحة البدن وسلامة العقل ، فإذا قدح فى ذلك شىء
، كان مذموما .فإن قيل : فما تقول فيمن مات من الخوف؟
فالجواب:أنه
ينال لموته تلك الحال مرتبة لا ينالها لو
مات من غير خوف ، إلا أنه لو عاش وترقى إلي درجات المعارف والمعاملة ، كان أفضل ،
فإن أفضل السعادة طول العمر فى طاعة الله تعالى ، فكل ما أبطل العمر والعقل والصحة
فهو نقصان وخسران.
ومن أقسام الخائفين ، من يخاف سكرات الموت وشدته ، أو
سؤال منكر ونكير، أو عذاب القبر.
ومنهم
من يخاف هيبة الوقوف بين يدى الله تعالى ، والخوف من المناقشة ، والعبور على
الصراط، ، والخوف من النار وأهوالها ، أو حرمان الجنة ، أو الحجاب عن الله سبحانه
وتعالى ، وكل هذه الأسباب مكروهة فى أنفسها ، مخوفة.
فأعلاها
رتبة خوف الحجاب عن الله تعالى ، وهو خوف العافين ، وماقبل ذلك خوف
الزاهدين والعابدين.
فصل ( فى فضيلة
الخوف والرجاء وماينبغى أن يكون الغالب منهما)
فضيلة
كل شىء بقدر إعانته على طلب السعادة،وهى لقاء الله تعالى ، والقرب منه ، فكل ما
أعان على ذلك فهو فضيلة. قال الله تعالى : ( ولمن خاف
مقام ربه جنتان ) <الرحمن:46>. وقال تعالى : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ) <البينة
:8>.
وفي
الحديث عن النبى صلى الله عليه وآله وسلم
أنه قال : (( إذا اقشعر جلد العبد من مخافة الله عز وجل
تحاتت عنه ذنوبه ، كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها )) <1>.
وفى حديث آخر: (( لن يغضب الله
على من كل فيه مخافة )).
وقال
النبى صلى الله عليه وآله وسلم : قال الله عز وجل : ((وعزتى
وجلالى ، لا أجمع على عبدى خوفين ، ولا أجمع له أمنين ،إن أمنتى في الدنيا ، أخفته
يوم القيامة ،وإن خافنى فى الدنيا ، أمنته يوم القيامة )) <2>.
وعن ابن
عباس رضى الله عنه عن النبى صلس الله عليه وآله سلم أنه قال : (( عينان لا تمسهما النار أبدا : عين بكت من خشية الله ، وعين باتت
تحرس في سيبل الله )).
واعلم: أن قول القائل: أيما أفضل : الخوف ، أو الرجاء ؟ كقوله
:أيما أفضل : الخبز أو الماء ؟
جوابه : أن
يقال الخبز للجائع أفضل ، والماء للعطشان أفضل، فإن اجتمعا ، نظر إلي الأغلب ، فإن
استويا ، فهما متساويان ، والخوف والرجاء دواءان يداوى بهما القلوب، ففضلهما بحسب
الداء الموجود ، فإن كان الغالب على القلب الأمن من مكر الله ، فالخوف أفضل ،
وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية ، وإن كان الغالب عليه اليأس والقنوط ،
فالرجاء أفضل. ويجوز أن يقال مطلقا :
الخوف أفضل ، كما يقال : الخبز أفضل من السكنجبين لأن الخبز يعالج به مرض الجوع ،
والسكنجبين يعالج به مرض الصفراء ، ومرض الجوع أغلب وأكثر ، فالحاجة إلي الخبز
أكثر ، فهو أفضل بهذا الاعتبار لأن المعاصى والاغترار من الخلق أغلب .
وإن
نظرنا إلي موضع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل ، لأن الرجاء يستقى من بحر الرحمة ،
والخوف يستقى من بحر الغضب.
وأما
المتقى ، فالأفضل عنده اعتدال الخوف والرجاء ، ولذلك قيل : لو وزن خوف المؤمن
ورجاؤه ، لاعتدلا.
قال:
بعض السلف : لو نودى : ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلا واحدا ، لخشيت أن أكون أنا
ذلك الرجل . ولو ندوى :ليدخل النار كل
الماس إلا رجلا واحدا ، لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل. وهذا ينبغى أن يكون
مختصا بالمؤمن المتقى .
وهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يسأل حذيفة رضى
الله عنه : هل أنا من المنافقين ؟ وإنما خاف أن تلتبس حاله عليه ، ويستتر عيبه عنه
، فالخوف المحمود هو الذي يبعث على العمل ، ويزعج القلب عن الركون إلي الدنيا .
وأما
عند نزول الموت ، فالأصلح للإنسان الرجاء ، لأن الخوف كالسوط الباعث على العمل ،
وليس ثمة عمل ، فلا يستفيد الخائف حينئذ إلا تقطيع نياط قلبه ، والرجاء فى هذه
الحال يقوى قلبه ، ويحبب إليه ربه ، فلا ينبغي لأحد أن يفارق الدنيا إلا محبا الله تعالى ،محبا للقائه، حسن
الظن به.
فصل (في بيان الدواء الذى يستجلب به الخوف
)
وذلك
يحصل بطريقين:
اعلم أن الخوف
من الله تعالى على مقامين:
احدهما :
الخوف من عذابه، وهذا خوف عامة الخلق، وهو حاصل بالإيمان بالجنة والنار، وكونهما
جزاءين على الطاعة والمعصية، ويضعف هذا الخوف بسبب ضعف الايمان، أو قوة الغفلة.
وزوال
الغفلة يحصل بالتذكر، والتفكر في عذاب الآخرة، ويزيد بالنظر إلى الخائفين
ومجالستهم ، أو سماع أخيارهم.
المقام الثاني:
الخوف من الله تعالى، وهو خوف العلماء العارفين. قال الله تعالى ( ويحذركم الله نفسه )
<آل عمران:30>.
وصفاته سبحانه تقضى الهيبة والخوف، فيهم يخافون البعد
والحاجب.
ومن
قصر، فسبيله أن يعالج نفسه بسماع الأخبار والآثار، فيطالع أحوال الخائفين وأقوالهم
، وينسب عقولهم ومناصبهم إلي مناصب الراجين المغرورين، فلا يتمارى فى أن الاقتداء
بهم أولى ، لأنهم الأنبياء والعلماء والأولياء.
ومن
أعجب ما ظاهره الرجاء وهو شديد التخويف ، وقوله تعالى : (وإني
لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى)<طه:82> فإنه علق المغفرة
على أربعة شروط ، يبعد تصحيحها.
ولما
حضرت سفيان الثورى الوفاة، جعل يبكى ، فقال له رجل : ياأبا عبدالله :أراك كثير
الذنوب ، فرفع شيئا من الأرض وقال : والله لذنوبى أهون عندى من هذا ، ولكن أخاف أن
أسلب الأيمان قبل الموت .
قال
بعضهم : لو أعلم أنى برئ من النفاق، كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس ، ولم يريدوا
بذلك نفاق العقائد ، إنما أرادوا نفاق الأعمال ، كما ورد فى الحديث الصحيح : ((أية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان
))<1>.
ذكر خوف الملائكة عليهم السلام
قال الله تعالى فى صفتهم : (
يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون مايؤمرون) (النحل: 50)
وقد روينا عن النبي صلى الله
عليه وأله وسلم أنه قال : (( ان لله ملائكة ترعد فرائصهم
من مخافته))(1) وذكر تمام
الحديث.
وبلغنا أن من حملة العرش من
تسيل عيناه مثل الأنهار , فإذا رفع رأسه قال : سبحانك ما
تخشى حق خشيتك , فيقول الله :
لكن الذين يحلفون باسمى كاذبين لا يعلمون ذلك .
وعن يزيد الرقاشى قال: إن لله
تعالى ملائكة حول العرش تجرى أعينهم مثل مثل الأنهار
إلى يوم القيامة , يميدون كأنما
تنفضهم الريح من خشيه الله تعالى , فيقول لهم الرب عز وجل:
يا ملائكتي ما الذي يخيفكم
وأنتم عندي ؟ فيقولون : يا رب ! لو أن أهل الأرض اطلعوا من عزتك
وعظمتك على ما اطلعنا عليه, ما
اساغوا طعاما ولا شرابا , ولا انبسطوا في فرشهم , ولا خرجوا
إلى الصحارى يخورون كما تخور
البقر .
ذكر خوف الأنبياء عليهم السلام
قال وهب : بكى آدم عليه السلام
على الجنة ثلاثمائة عام , وما رفع رأسه إلى السماء بعد ماأصاب
الخطيئة .
وقال وهيب بن الورد : لما عاتب
الله تعالى نوحا عليه السلام في ابنه فقال : ( إني أعظك
أن تكون
من الجاهلين)( هود : 46) بكى
ثلاثمئة عام حتى صار تحت عينه أمثال الجداول من البكاء .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : كان يسمع لصدر ابراهيم
عليه السلام إذا قام إلى الصلاة أزيز من بعد خوفا من الله عز وجل .
وكان عيسى عليه السلام إذا ذكرت
الموت يقطر جلده دما .
وبكى يحيى بن زكريا
عليهما السلام حتى بدت أضراسه ، فاتخذت أمه فطعتين من لبود فألصقتها بخديه .
ذكر خوف نبينا صلى الله عليه وسلم
عن
عائشة رضي الله عنها قالت : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مستجمعا
ضحكا، حتى أرى لهواته إنما كان يبتسم ، وكان إذا رأى غيما وريحا عرف ذلك في وجهه ،
فقلت : يا رسول الله : الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه مطر، وأراك
إذا رأيته عرفت الكراهة في وجهك ! فقال ( يا عائشه :
ما يؤمننى أن يكون فيه عذاب ؟ قد عذب قوم
بالريح ، وقد رأى قوم العذاب فقالةا : هذا عارض ممطرنا )
((
أخرجاه في ( الصحيحين ) (1) )
وكان صلى الله وعليه
وآله وسلم يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل
من البكاء <2>.
ذكر خوف أصحابه رضى الله عنهم
روينا عن أبى بكر الصديق رضى
الله عنه أنه كان يمسك لسانه ويقول: هذا الذى أوردنى الموارد. وقال : يالتنى كنت
شجرة تعضد ثم تؤكل. وكذلك قال طلحة وأبو الدرداء وأبو ذر رضى الله عنهم.
وكان عمر بن الخطاب رضى الله
عنه يسمع آيه فيمرض فيعاد أياما. وأخذ
يوما تبنة من الأرض فقال: يالتنى كنت هذه التبئة، يالتنى لم أك شيئا مذكورا، ياليت
أمى لم تلدنى وكان فى وجهه خطان أسودان من البكاء.
وقالت عائشة رضى
الله عنها: يالتنى كنت نسيا منسيا.
ذكر خوف التابعين ومن بعدهم
وكان عمر بن عبدالعزيز إذا ذكر
الموت انتفض انتفاض الطير، ويبكى حتى تجرى دموعه على لحيته، وبكى ليلة فبكى أهل
الدار، فلما تجلت عنهم العبرة قالت فاطمة: بأبى أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال
: ذكرت منصرف القوم من بين يدى الله تعالى، فريق فى الجنة، وفريق فى السعير.. ثم
صرخ وغشى عليه.
ولما أراد المنصور بيت المقدس ،
نزل براهب كان ينزل به عمر بن عبدالعزيز فقال له: أخبرنى بأعجب مارأيت من عمر
فقال: بات ليلة على سطح غرفتى هذه وهو من
رخام، فإذا أنا بماء يقطر من الميزات ، فصعدت فإذا هو ساجد ، وإذا دموع عينه تنحدر
من الميزات.
فهذه مخاوف الملائكة والأنبياء
والعلماء والأولياء، ونحن أجدر بالخوف منهم ، ولكن ليس الخوف بكثرة الذنوب ولكن
بصفاء القلوب وكمال المعرفة، وإنما أمنا لغلبة جهلنا وقوة قساوتنا ، فالقلب الصافى
تحركه أدنى مخافة ، والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ .
قال بعض السلف : قلت لراهب:
أوضنى ، فقال: إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشيه السباع والهوام ، فهو خائف
حذر يخاف أن يغفل فيفتر سنه، أو يسهو فينهشنه ، فهو مذعور فافعل ، قلت : ردنى فقال
: الظمآن يجزيه من الماء أيسره . وماذكره هذا الراهب من تقدير شخص احتوشته السباع
والهوام ، فهو حقيقة في حق المؤمن ، فإن من نظر إلي باطنه بنور بصيرته ، رآه
مشحونا بالسباع والهرام ، كالغضب ، والحقد ، والحسد ، والكبر، والعجب ، والرياء ،
وغير ذلك ؟، وكلهن ينهشنه ويفترسنه إن سها عنهن ، إلا أنه محجوب عن مشاهدتها ،فإذا انكشف الغطاء ووضع في القبر ،
عاينها متمثلة حيات وعقاب يلدغنه ، وإنما هى صفاته الحاضرة الآن ، فمن أراد أن
يقهرها قبل الموت ويقتلها فليفعل ، وإلا فليوطن نفسه على لدغها لصميم قلبه ، فضلا
عن ظاهر بشريه والسلام .