بقلم: أ.د. عبد الرحمن البر
أخرج الترمذى من حديث ابن مسعود: «أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ: انْتِظَارُ الْفَرَجِ». ولهذِهِ العِبادةِ صُورٌ مِنْها: انتظارُ الفرجِ بحُسْنِ الظنِّ في اللهِ، وبصدقِ الرجاءِ وقوةِ الأملِ في نصرِه للمظلومين أَحْسِنِ الظَّنَّ بِرَبٍّ عَوَّدَك حَسَنًا أَمْسِ، وَسَوَّى أَوَدَك إنَّ ربًّا كانَ يَكْفِيكَ الَّذِي كَانَ بِالأَمْسِ سَيَكْفِيكَ غَدَك قال
تعالى ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (الأعراف
56)، وقال بعضُ الصَّالحين: «استَعْمِلْ في كُلِّ بَلِيَّةٍ تَطْرُقُكَ
حُسْنَ الظَّنِّ باللهِ عزَّ وجلَّ في كَشْفِها، فَإِنَّ ذلك أَقْرَبُ بِكَ
إلى الفَرَج». وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّمَا أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ وأخرج
الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ
عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي». قالَ بعضُ الحكماءِ:
«إنَّ الرجاءَ مادَّةُ الصبرِ، والمُعينُ عليه. وعِلَّةُ الرجاءِ
ومادَّتهُ: حُسْنُ الظَّنِّ باللهِ، الذي لا يجوزُ أن يخيبَ، فإنَّا قد
نستَقْرِيُ الكُرماءَ، فنَجِدُهم يرفَعون مَنْ أَحْسَنَ ظنَّهُ بهمْ،
ويتَحوَّبُون منْ تخيّبَ أملُه فيهمْ (يعني يؤثِّمون مَنْ خاب أملُه فيهم)،
ويتحرَّجون مَنْ قصدَهم، فكيفَ بأكرمِ الأكرمين، الذي لا يُعْوِزُه أنْ
يمنحَ مُؤمِّليه ما يزيدُ على أمانيِّهم فيه». يَا صَاحِبَ الهمِّ إنَّ الهمَّ مُنْفَرِجٌ أَبْشِرْ بخَيْرٍ فَإنَّ الفَارِجَ اللهُ اليَأْسُ يَقْطَعُ أحْيانًا بصَاحبِه لَا تَيْأَسَنَّ فَإنَّ الكافيَ اللهُ اللهُ يُحدِثُ بعدَ العُسْرِ مَيْسَرَةً لَا تجْزَعَنَّ فَإنَّ القاسِمَ اللهُ إذَا بُلِيتَ فَثِقْ باللهِ وارْضَ بِه إنَّ الَّذي يكْشِفُ البَلْوَى هو اللهُ واللهِ مَا لَكَ غَيْرُ اللهِ مِنْ أحَدٍ فَحْسبُك اللهُ، في كُلٍّ لَكَ اللهُ وحُسْنُ
الظنِّ الصحيحُ: هو العملُ وفقَ سننِ الله واكتسابُ أسبابِ كشْفِ المحنةِ،
وليس هو الأمانيَّ والعيشَ مع الأوْهامِ، وقد تناول الحسنُ البصريُّ قومًا
غرَّتهم الأمانيُّ «وقالوا: نُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ، وكذَبُوا، لو
أَحْسنُوا الظَّنَّ لَأَحْسَنُوا العمَل». ومع حُسْنِ الظنِّ يقوَى
الرجاءُ وتقوى الثِّقةُ والأملُ في تحقيقِ وعدِ الله بالنصرِ والتمكينِ
للصالحين مهما اشتطَّ الانقلابيون في الظلمِ، ومهما أمْعَنوا في القمعِ، بل
إنهم كلما ازدادوا غَيًّا وإمعانًا في الظُّلمِ كلما قوِي أملُنا في
سقوطِهم وانتصارِ الثورة: هِيَ الأَيَّامُ والغِيَر وأمرُ اللهِ مُنْتظَرُ أَتَيْأَسُ أَنْ تَرَى فَرَجًا فَأَيْنَ الرَّبُّ والقَدَرُ قال عليٌّ رضي الله عنه: «عِنْدَ تَنَاهِي الشِّدَّةِ تكونُ الفُرْجَةُ، وعند تضايُقِ حَلَقِ البَلاءِ يكونُ الرَّخاء». فإذا
احلَوْلَكَ الليلُ انبلجَ الصُّبْحُ، وإذا اشتدَّتْ ظُلمةُ الغَيْثِ لمع
البَرْقُ، وإذا شُدَّ الحبلُ انقطع، وإنَّ الأعمَى يقول لابنه: يا بُنَيَّ
كيفَ نحنُ من اللَّيْل؟ فإذا قال له: قد اسْوَدَّ الليلُ، قال: قد قَرُبَ
الفجْرُ. إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى اليَأْسِ القُلُوبُ وضَاقَ لما بهِ الصَّدْرُ الرَّحِيبُ وَلَمْ تَرَ لانْكِشافِ الضُّرِّ وَجْهًا ولَا أغْنَى بِحِيلَتِه الأَرِيبُ أَتَاكَ على قُنُوطٍ مِنْكَ غَوْثٌ يَمُنُّ بهِ اللَّطِيفُ المسْتَجِيبُ وكُلُّ الحادِثَاتِ وَإِنْ تَنَاهَتْ فمَوْصُولٌ بها الفَرَجُ القَرِيبُ وقيل
لعُمرَ رضي الله عنه: اشتدَّ القحْطُ وقَنَطَ الناسُ، فقال: الآن
يُمْطَرون. وأخذ ذلك من هذه الآية ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ
مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ
الْحَمِيدُ﴾ (الشورى 28). وقال بعضُ الحكماء: «أعدلُ الشواهدِ
بمحبَّةِ الله جلَّ ذِكْرُه، لتمسُّكِ عبدِه برِحابهِ، وانتظارِ الرَّوحِ
منْ ظلِّهِ ومآبِه: أنَّ الإنسانَ لا يأتيه الفَرَجُ، ولا تُدركُه النجاةُ،
إلا بعد إخفاقِ أملهِ في كلِّ ما كان يتوجِّه نحوه بأملِه ورغبتِه، وعند
انغلاقِ مطالبِهِ، وعَجْزِ حيلتِه، وتَنَاهِي ضَرِّهِ ومحنتِه، ليكونَ ذلك
باعثًا له على صَرْفِ رجائِهِ أبدًا إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، وزاجرًا له على
تجاوز حُسْنِ ظنِّه به». إذَا الحادِثاتُ بَلَغْنَ المدَى وكَادَتْ لهنَّ تَذُوبُ الْمُهَج وحَلَّ البَلاءُ وقَلَّ الوَفَا فعِنْدَ التَّنَاهِي يكُونُ الفَرَج ولقد
اشتدَّ أملُ يعقوبَ في العُثورِ على يوسُفَ عليه السلامُ بعد أنْ بلغت
الشدَّةُ أوْجَها بفَقْدِ الولدِ الثاني، فقال ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ﴾ (يوسف 83) وبَثَّ في بنيه اليقينَ والأملَ في رَوْح ِالله،
وقال ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا
تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف 87)، وحقَّق اللهُ رجاءَه وجمعَه
بأبنائِه، بعد أنْ كان البعضُ يعتبر الحديثَ عن يوسفَ لونًا من الخَرَفِ
والضَّلال. ادْفَعْ بِصَبْرِكَ حَادِثَ الْأَيَّامِ وَتَرَجَّ لُطْفَ الْوَاحِدِ الْعَلَّامِ لَا تَيْأَسَنَّ وَإِنْ تَضَايَقَ كَرْبُهَا وَرَمَاك رَيْبُ صُرُوفِهَا بِسِهَامِ فَلَهُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فُرْجَةٌ تَخْفَى عَلَى الْأَبْصَارِ وَالْأَفْهَامِ كَمْ مَنْ نَجَا مِنْ بَيْنِ أَطْرَافِ الْقَنَا وَفَرِيسَةٍ سَلِمَتْ مِنْ الضِّرْغَامِ واعلم أنَّ لكلِّ شيءٍ نهايةً، وهذا البلاءُ الانقلابيُّ لا بُدَّ أنه إلى زوالٍ إن شاء الله: هَوِّنْ عَلَيْك فَكُلُّ الْأَمْرِ مُنْقَطِعٌ وَخَلِّ عَنْك عَنَانَ الْهَمِّ يَنْدَفِعُ فَكُلُّ هَمٍّ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَرَجٌ وَكُلُّ أَمْرٍ إذَا مَا ضَاقَ يَتَّسِعُ إنَّ الْبَلَاءَ وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بِهِ فَالْمَوْتُ يَقْطَعُهُ أَوْ سَوْفَ يَنْقَطِعُ فثِقُوا
باللهِ وأحْسِنُوا الظنَّ به معشرَ الثوارِ الأحرارِ الكرامِ، واستمرُّوا
في تصعيدِكم الثوريِّ السلميِّ المبدِع، ووحِّدُوا جُهودَكم ثم ائتُوا
صَفًّا واحدًا، وأبشِرُوا وانتظِروا الفرجَ القريبَ من الله، ففي مسندِ
أحمدَ أنَّ الصحابيَّ الجليلَ واثِلَةَ بنَ الأَسْقَعِ قال لصاحبِه أبي
الأسْوَدِ الجُرَشِيِّ: وَاحِدَةٌ أَسْأَلُكَ عَنْهَا. قَالَ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: كَيْفَ ظَنُّكَ بِرَبِّكَ؟ فَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ وَأَشَارَ
بِرَأْسِهِ، أَيْ حَسَنٌ. قَالَ وَاثِلَةُ: أَبْشِرْ إِنِّي سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَالَ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي
مَا شَاءَ». انتظارُ الفرج بالصبرِ على الشَّدائدِ وتركِ الشكايةِ، وتوقُّعِ مُفَاجآتِ القَدَر الطَّيِّبة مِنْ
حُسْنِ التَّوْفِيقِ: الصَّبْرُ عَلَى الْمُلِمَّاتِ حتَّى تَنْجَليَ،
والثباتُ للشَّدائِدِ حتى تَزُولَ، والصُّمُودُ لِلْمِحَنِ حتَّى
يَصْرِفَها اللهُ، وقد كانَ أوَّلُ دَرْسٍ تَرْبَوِيٍّ يُوَجِّهُه موسَى
عليه السلامُ لقَومِه لِيُعِدَّهُم لِخَوْضِ مَعْركةِ النَّصْرِ هو
الاستعانَةُ باللهِ وبالصَّبْر ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا
بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف 128) وقال
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أخرجه أحمد وغيره: «وَاعْلَمْ
أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ
النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْرًا». ورُوي عن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال:
«أفضَلُ عمَلِ الممتَحَنينَ: انتِظارُ الفَرَجِ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ،
والصبرُ على قَدْرِ البَلَاء». وعنه أيضًا: «الصَّبْرُ كفيلٌ بالنجاحِ، والمتوكِّل لا يَخيبُ ظَنُّه». فما تجرَّع كأسَ الصَّبرِ مُعْتَصِمٌ باللهِ إلاَّ أتاهُ اللهُ بالفَرَج وقد
قيل: «مِنْ أفضلِ آدابِ الرِّجالِ: أنَّه إذا نزلتْ بأحدِهم جائحةٌ،
استعملَ الصبرَ عليها، وألهمَ نفسَه الرجاءَ لزوالها، حتى كأنَّه لِصَبْرِه
يُعايِنُ الخلاصَ منها والغَناءَ، توكُّلًا على اللهِ عزَّ وجلَّ، وحُسْنَ
ظنٍّ به، فمتى لزِمَ هذه الصفةَ، لم يلبثْ أنْ يقضيَ اللهُ حاجتَه،
ويُزيلَ كُرْبَتَه، ويُنجِحَ طِلْبَتَه، ومعه دينُه وعِرْضُه ومُروءتُه». سَأصْبِرُ للزَّمَانِ وإنْ رَمَاني بِأَحْدَاثٍ تَضِيقُ بها الصُّدُور وأَعْلَمُ أنَّ بعدَ العُسْرِ يُسْرًا يَدُورُ بهِ القَضاءُ المسْتَدِيرُ وقد
ذكر ابنُ القيِّمِ أنَّ مما يُستَعانُ به على الصَّبرِ: انتظارُ الفَرَج،
فإنَّ انتظارَه ومُطالعَتَه وتَرَقُّبَهُ يُخفِّفُ حملَ المشَقَّة. فكُلُّ ضِيقٍ سَيَأْتي بَعْدَهُ سَعَةٌ وَكُلُّ صَبْرٍ وَشِيكٌ بَعْدَهُ ظَفَرُ وهذا
الصبرُ ليس صبرَ اليائسِ العاجزِ، بل هو صبرُ الراضي بقضاءِ ربه، الراجي
رحمتَه ونصرَه، السَّاعِي في إِزَالةِ أسبابِ المحنةِ، المتوقعِ لجميلِ
صُنْعِ ربه: توقَّعْ صُنْعَ ربِّكَ سَوْفَ يَأْتي بما تَهْوَاهُ مِنْ فَرَجٍ قرِيبِ ولا تيْأَسْ إذا مَا نَابَ خَطْبٌ فكَمْ في الغَيْبِ مِنْ عَجَبٍ عَجِيبِ فكم
من مقاديرَ تجري لا يتوقعُها أحدٌ، قال تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ
اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ أي ظهرَ للخلقِ ما لم يكونوا
يَظُنُّونَهُ وَيَتَوَقَّعُونَهُ وَيُدْخِلُونَهُ فِي حِسَابِهِمْ، وَمَا
لَمْ يُحَدِّثُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ، حين ينخدِعُون بما هُم فيه من القوةِ
والسيطرةِ والتَّمْكِين، ويغْتَرُّون بتَقَلُّبِهم في البِلَاد. عَسَى فرَجٌ يأْتِي بهِ اللهُ إنَّه لَهُ كُلَّ يوْمٍ في خَلِيقتِه أَمْرُ وقد
يكونُ من صُنْعِ اللهِ الخفِيِّ: أنْ يوجِدَ في قلبِ قلعةِ الظُّلْم مَنْ
يؤمنُ بالحقِّ ويسعَى لنَصْرِه، كما في قصةِ مؤمنِ آلِ فرعون، وكما في قصةِ
الرجلِ الذي جاءَ من أقصَى المدينةِ يسعَى ليُنْقِذَ موسى عليه السلامُ من
تدبيرِ المتآمرين عليه. عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أمْسَيْتَ فيهِ يكونُ وراءَهُ فرَجٌ قريبُ وهل
كان المؤمنون أو اليهودُ يتصوَّرون أن ينتهيَ الأمرُ ببني النَّضير تلك
النهايةَ المذكورةَ في سورة الحشر ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ﴾ (الحشر 2). وتذكَّرْ أنَّ موسى عليه السلامُ حين ذهب
للنَّار كانَ يطلبُ خبرًا أو جذوةً من النار، فإذا بكرمِ الله ينالُه
فتأتيه الرسالةُ، ولهذا قال بعضُهم: كُنْ لما لَا تَرْجُو منَ الأمرِ أَرْجَى منكَ يوْمًا لما لَهُ أنتَ رَاجِ إنَّ موسَى مضَى ليَطْلُبَ نارًا مِنْ ضِياءٍ رَآه وَالَّليلُ دَاجِ فَأتَى أهلَه وقَدْ كلَّمَ اللَّــ ــهَ ونَاجَاهُ وهْوَ خَيْرُ مُنَاجِ وكَذَا الأَمْرُ كُلَّما ضاقَ بالنَّا سِ أتَى اللهُ فيهِ سَاعةً بالانْفِراجِ وإذا أراد اللهُ أمرًا هيَّأَ له أسبابَه، ولا يملكُ أحدٌ أنْ يتجاوزَ قَدَرَ الله، مهما أُوتِي من الأسباب. إِنّ المَقاديرَ إِذا ساعَدَتْ أَلحَقَت العاجِزَ بالحازِم إِذَا مَا أَرادَ اللهُ تيْسِيرَ حَاجةٍ رَأَيْتَ لها مِنْ مَوْضِعِ اليَأْسِ مَخْرَجا وإذَا لم يشأ اللهُ أمرًا فلنْ يكونَ أبدًا وإنْ تواترتْ أسبابُه: وكم
خيَّبَ الله ظنونَ الظالمين والمنافقين وأمانِيَّهُم في مواطنَ كثيرة، مثل
ظنِّهم أنَّ الرسولَ والمؤمنين في أيام صُلحِ الحديبيةِ سيهلِكون،
ففاجأَهم بأن فتحَ على رسولِه والمؤمنين فتحًا مبينًا، وخيَّب ظنَّ
المنافقين، وقال: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرَّسُولُ
وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي
قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ (الفتح
12). وكما خيَّب الله أمانِيَّهُم في غزوةِ تَبُوك، إذ رجع
المؤمنون منصورين بعد أن ظنَّ المنافقون أنهم سيُهْزَمون هزيمةً منكَرةً،
وقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جَلّادَ بَنِي الْأَصْفَرِ
كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ؟ وَاَللّهِ لَكَأَنّا بِكُمْ
غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ، إرْجَافًا وَتَرْهِيبًا
لِلْمُؤْمِنِينَ. ففاجأَهُم اللهُ بنصرٍ عظيمٍ للمؤمنين، ولما انكشفَ أمر
أولئك المرجِفين أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ فَقَالوا: كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ
اللّهُ فِيهِمْ ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ﴾ (التوبة 65). فثِقُوا باللهِ معشرَ الثوارِ الأحرارِ
الكرامِ، واصبِروا واستمرُّوا في ثورتكم الرائعة، وفي نهجِكم السلميِّ
المبدِع، وانتظروا مفاجآتِ القَدَرِ السعيدةَ، والفرجَ القريبَ من الله
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ
عَزِيزٌ﴾ (الحج 40).
|