شكري بين الكتابة المتمردة والحياة

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية شكري بين الكتابة المتمردة والحياة

شكري بين الكتابة المتمردة والحياة



الراحــل محمد شكــــــري

بين الكتابـة المتمـــردة والحيــــاة

                                                              
                                                                   بقلم : ميلـــود اعليلــو

 

         يشكل محمد شكري صوتـا متميزا واصيلا ، طبع كتاباتـه الادبية التي انطلقت بداية السبعينات بطابع التمرد في الحيـاة ن لبعدها الثوري واعطاء للهامش قوة الحضور بنوع من الجرأة والتحرر فكان هذا سببا في منع سيرته الذاتيـة الاولى " الخبـز الحافـي " من التداول لعقود طويلة الى أن تم الافراج عنها سنـة 2000 ، حملت اثرهـا لمحمـد شكري من الشهرة العالميــة ، بعد ان ترجمت سيرته الذاتيـة الى 39 لغــة عالميــــــة .
         وبعـد ثمانيـة وستيـن سنة من التحليق خارج السرب ، رافضا الامتثال للنمطيـة السائدة او التعبـد في محارب المدارس المغلقـة وبعد صراع عسير ومقاومة عنيدة لمرض السرطان ، انطـفأ محمد شكـري الى الابـد زوال يوم السبت 20 رمضـان 1424 موافق 15 نوفمبر 2003 بالمستشفى العسكري بالرباط ، بعد حيــاة مليئـة بالبؤس والتهميــش دونتهـا كتاباته الابداعيــة التي جعلتـه اديبا عالميــا مشهورا بامتيـــاز .   


                                                                                                                               ¨                    محمد شكري ورحلـة الكتابـة مع بول بوولـز PAUL BOWLS  .

لقد ارتبط اسم " محمد شكري " ارتباطا وثيقا بسيرته الذاتيـة " الخبز الحافـي " التي ارخت لفترة رديئـة من تاريخ المغرب قبل الاستقلال ، تصف الاجواء الحالكـة من الفقر المدقع ، وحياة الصعلكـة والتشرد والظلم الابـوي والبؤس الاجتماعـي والرداءة في كل شـيء

لقد كانت عزيمـة محمد شكري قويـة حين انطلق مع رحلة الكتابة اثناء تعامله مع الكاتب الامريكي المقيم بطنجة الراحل بول بوولـز ( 1910 – 1999 ) بشكل متميـز ، عكس تعامل هذا الاخير مع الحكواتييـن الشعبييـن امثال : العربي العياشي الملقب بـ " ادريس بنحامد الشرادي " صاحب الحكاية الشهيرة " حياة مليئـة بالثقـوب[i] " واحمد اليعقوبي ومحمد الحجام المعروف بـمحمد المرابط وعبد السلام بولعيـش لكون شكري كان متعلما ويتميز عن هؤلاء الرواة الامييـن بنوع من الوعي السياسي والقومـي والوطني .

         فمـا اسـرع ما لجـأ اليـه شكري بالادعاء أمام بوولـز دون تردد أو حساب للعواقب حين سأله عن تدويــن سيرتـه الذاتيـة ، فاجابـه بأنـها موجودة وجاهزة ، يقول شكري في هذا الصدد " اقترح علـي بيتر أوين في منزل بوولز عن تدوين كتابة سيرتي الذاتيـة أجبتـه بأنها موجودة عندي ، وكتبتها منذ سنوات ، ووسط دهشتنا نحن الثلاثة وقعنا أنا وبولز عقدا مع أوين ، وفي تلك الليلـة بالذات شرعت في كتابة الفصل الاول من الخبز الحافي محفوزا بطموح ان يكون لي كتابي الاول كتبته في اقل من شهريـن ، كنت اكتب صفحات في النهار وأمليها على بوولز في المساء بالاسبانيـة التي يتقنها لانـه لا يعرف العربيـة ، عندما انتهينـا من الترجمة اخبرته بأن مخطوطة الكتاب لم تكن موجودة من قبـل ، اندهش !
-          كيف تجعلني أوقع شيء لم يكن موجودا ؟ يقـول بوولـز
-          كانت سيرة حياتـي مطبوخـة جيدا في ذهني ياسينيـور بوولـز  " [ii]
وبعـد الفراغ من هذا العمل الثنائـي ، سيقوم الناشر الامريكـي بيتـر أويـن صديق بوولـز بنشر الكتاب الى الانجليزيـة سنـة 1973 تحت عنـوان " من اجـل الخبـز وحـده " "     FOR  BREAD A LONE " وهو العنوان الاصلـي لسيرتـه الذاتيـة متمثلا عكس ما قالــه يسوع المسيح عليه السلام " ليس بالخبـز وحـده يحيـا الانسان " فكانت بدايـة الانطلاقـة بباكورة هذا العمل الادبـي ، التي سيسعـى جاهدا الى نشرهـا باللغـة العربيـة على مستـوى واســـع .

                                                                                                                                                                                                                                        ¨                    لعنـــة منــــع الخبــــز الحافــــي .
فـي بدايــة الثمانينــات اتطلعت زوجة الناشر الفرنسي الشهير فرانسوا ماسبيرو[iii] على نسخة من كتاب " من اجل الخبـز وحـده " فاعجبت بعوالمـه الحكائيـة فاقترحت على زوجها ترجمة الكتاب المذكور ونشره في حلقـات ، الشيء الذي سيحفز ماسبيرو على انتداب صديقه الكاتب المغربي الطاهر بن جلـون للقيام بـهذه المهمة لتخرج الصيغـة الفرنسيـة للكتاب سنـــة 1980 تحت عنـوان " الخبـز الحافـي " " LE PAIN NU  " وهو العنـوان الذي سيستقـر عليه الكتاب في جميع الطبعات واللغات  الاجنبيــة العديدة التي سينقل اليهـا ، فمـلأ الدنيـا وشغـل الناس ولقيت سيرته الذاتيـة الشطاريـة من الشهرة العالميـة ، ولم تظهر النسخـة العربيـة الا في سنـة 1983 حيث نشرها على نفقتـه الخاصــة .
وظلت لعنـة منع " الخبـز الحافـي " تلاحق شكري منذ صدورها ، فسقطت تحت طائلـة المنـع وبجدار منيع من الرقابـة والحصار ، لم يكن يتوقـع حدوثها الى درجـة المطالبـة برأسه ، في الوقت الذي كانت تعرف فيه الرواية رواجـا واقبالا جماهيريـا كبيرا ، فتوالت الترجمات الى لغات عديدة والمنـع في جهات أخـرى ، هـذه المفارقات أربكـت محمــد شكري وجعلتـه يتوقف عــن الكتابـة تسعــة عشر عامـا ( 1973 – 1992 ) ولم يتردد يومـا بالقول في آخر ايام حياته " اننـي احلـم بقتل هذا الكتاب والتخلص منه نــهائيـا ، لكنـه لا يريـد أن يـموت[iv] "



                                                                                                                                                                                                                               ¨                    محمـد شكـري وعـــــودة الــــروح .

كتـب محمد شكري أعمالا لا تقل اهميـة في قيمتـها الادبيـة عن " الخبز الحافـي " ولم يكن هذا الاخير بداية الكتابة فقط ، فقـد كتب قبلها قصته الاولى " العنف على الشاطيء " التي نشرهــا سهيل ادريس في الآداب ثم تواصلت بمجموعـة مــن القصص ضمها في كتاب " مجنـون الـورد " ثـم  " الخيمــة " و " السوق الداخلـي " الذي يصف اجواء طنجة ودروبها ولياليها الاسطوريـة والظاهـرة الهيبيـــة .

         ومـع مطلع التسعينـات أطل علينـا محمد شكري بروح جديدة وهو يمسك باللهب أن ســرد ذاتـه والكشف عن سريرتـه بئــر لم يجـف بعـد ، وخير دليل على ذلك مواصلتـه في كتابـة سيرتـه الذاتيـة " زمــن الاخطــاء [v] " الذي كتبـه كما يقول " من خلال تأملاتـي ، لقد بدأت اتعامل مع الحياة من خلال رموزهـا الثقافيـة ، فالتقنيـة تطورت عن سابقتهـا وكذلك التجارب التي اختمرت بما يليق بـهـا أن تعصــــر [vi] " ثم توالت مذكراته التي كتبها عن معايشاتـه لعدد من الادباء الذين آسرتهم مدينـة طنجـة امثال " جان جنيـه في طنجـة " و " تينيســي وليامـز في طنجــة " و " بول بولـز وعزلـة طنجــة " هذا الاخير الذي انتقد فيـه شخصيـة بولـز رغم فضله في ميلاد " الخبز الحافـي " .
ثـم يمتطـي شكري وجوها يسافـر من خلالهـا الى حلمـه الحاضر والقادم من خلال الجـزء الثالث من سيرتـه الذاتيـة " وجـــوه " التي زاوج فيها بين الشعر والنثر او النثر المشعــرن [vii]  ثم كتب نصوص نقديـة في كتابه " غوايـة الشحـرور الابيـض [viii] " مشيرا فيه الى مختلف المدارس الادبية التي استفاد منها وطريقة التعامـل معها ، والــى جانب هــذا كلـه جرب الكتابة المسرحية بنص مسرحي وحيد صــدر بعنوان " السعــادة " وفي ادب المراسلات جمع رسائلـه المتبادلـة بينه وبين الكاتب محمد برادة ما بين سنـة 1975 و 1994 في كتاب " ورد ورمــاد " كما تألق شكري باسهاماته في اعداد برامج ادبية فكريـة وثقافيــة ونقديــة بدايـة مع محطـة اذاعـة طنجـة الدوليـة ( ميدي 1 ) [ix] ثم مع اذاعة طنجة الجهويــة من خلال برنامج " شكري يتحـدث " في سنوات التسعينــات .
         ورغـم كــل ما كتبـه شكري في هـذه الفتـرة الاخيـرة ، فقـد ظل كتابـه " الخبـز الحافـي " الذي ينعتـه بالملعون يغطـي بظلالـه القيمـة الادبيـة لبقيــة مؤلفاتــة الابداعيــة السالفــة الذكـــر .

                                                                                                                                                                                                                                    ¨                    محمـد شكـري وعزلــــة طنجــــة .
بقـدر ما يرتبـط اسم " محمد شكـري " بسيرته الذاتيـة " الخبز الحافـي " ، يرتبـط اسمـه كذلك بمدينـة " طنجــة " فبينـه وبينها عشق لا حـد له ، وإن كانت قاسيـة معه الى حد بعيـد ، لكنها الهمتـه سحر الكتابـة ، فهي التي احتضنت تجربتـه بصخبها وجرأتها وحيرتها ، وتقلبها بين يأس وأمــل ، وألم ومتعـة ... الـى حد أنـه لا يستطيع التخلي والابتعاد عنها فهو يحـس " ان طنجــة هي بحري الذي لا استطيع العوم خارجـه ، فبيني وبين طنجـة ، علاقـة حب قويـة ... قد نفترق ، لكن الطلاق بيننـا غير وارد أبـدا  [x] " .
كـان محمد شكري ناسك طنجـة وعاشق لياليهـا الاسطوريـة ، فهو يختلف عن الذين قدموا اليها وأقاموا في احضانها أمثال بول بوولز وجان جنيه وجين آور ووليـام بورووز فهم يحنون الى وضعها الدولي ، لا تعنيهـم الاسطورة بقدر ما يهمهم زمـن اللذة بـمباهجها وبذخها وافراحهــا التي كان يتمتـع بهـا هـــؤلاء .
فـي نهايـة " الخبز الحافي " يتذكر شكري قول الشيخ الذي دفن شقيقه الأصغر " ( أخوك الآن مع الملائكـة ) ، أخي صار ملاكا ، وانــا ؟ سأكون شيطانا هذا لا ريب فيـه . الصغار اذا ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين . لقـد فاتنــي أن أكـون ملاكـــا [xi] "
سيظل محمد شكري ذاكرة طنجـة ومؤرخ مباءاتها الليلية من خلال كتاباتـه ، فمنهـا انطلق وهو يـدون مراحل حياتـه الطفوليـة ، وفيها ودع التهميش الذي عاشـته أسرتـه الفقيرة ، وفـي أحضانـها اكتشف سحرها الاسطــوري .. وفي ثراهــا وري جثمــانـه بعد هذا الشمـــوخ . 
برحيل هـذا الكاتب يكون الادب المغربي قـد فقد أحد رواده ، والذي سيترك فراغـا كبيرا في حقل الكتابـة والابداع بالمغرب ، فقد كان بـحق نموذج الكتابـة المتمردة التي كسرت كـل الطقوس السائدة وألقت بصخـرة قويــة في بركـــة الادب المغــــربي .
  
          




[i] عنـوان الكتاب الذي ضم مجموعـة من الحكايات رواها العربي العياشي لبول بوولز وترجمها الى الانجليزيـة ليصدر سنـة 1964 باسم مستعار هو ادريس بنحامد الشرادي خوفا من السلطــة في ملاحقتــــه .  
[ii] فــي لقاء ثقافي خاص نظمتـه الشركة الشريفية للتوزيع " سوشبريـس " مع الكاتب حول مفهـوم الكتابــة يوم 16/11/1999 بمقر الشركــة بالدار البيضــــاء  
[iii] نشر لـه " الخبز الحافي " و " جان جنيه في طنجـة " و " السوق الداخلي " قبل ان يكون له وكيل اعمالـه . 
[iv] في حوار مع محمد شكري اجراه ياسين عدنـان مجلة زوايــا العدد 54 يونيـو 2003 .
[v] سيرة ذاتيــة روائيـة صدرت الطبعـة الاولى ثم الثانية بالرباط سنة 1992 ثم توالت الطبعة الثالثة سنة 1995
[vi]  حــوار محمد شكري اجـراه الزبيـر بن بوشتـى ويحيـى الوليـد الصفحــة 17 – 18  مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء 2003 . 
[vii] نفـس المرجـع السابـــق ص 18
[viii] صدر كتاب "  غوايـة الشحرور الابيض " بطنجـة الطبعة الاولى 1998 بمقدمـة جميلة كتبها الناقد والكاتب السوري محيـي الديـن اللاذقــانـي .  
[ix] عمل محمد شكري طيلة ثمانيــة أعـوام فـي تقديم ( برنامج أدبـي ) في اذاعة ميدي 1 بطنجـة  
[x] فــي حوار مع محمد شكري وهو نزيل بالمستشفى العسكري بالربــاط  . 
[xi] الخبز الحافــي منشورات اتحاد كتاب المغـرب الطبعــة الخامسة الرباط 2000 صفحـــة 271

التصنيفات:
تعديل المشاركة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

لست ربوت

Back to top button