أبو القاسم الشابي فـي ميزان البحث
رؤية النقاد لـتجربته
الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي:
مؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ مدحت سعد محمد الجبار، ويتميز هذا الكتاب عن سالفه كونه يرصد ظاهرة بعينها، ويتناولها بالدراسة والتحليل، حيث إن الباحث يهدف من خلال هذا المصنف إلى البحث في جوهر الشعر عند الشابي، من خلال اختيار الصورة الشعرية التي يرى الباحث بأنها ظلت جانباً مهملاً في دراسته، وعن منهجه في رصد هذه الظاهرة فهو يتناولها «بطريقة تحليلية تركيبية، ينظر إلى الصورة الشعرية على أنها علاقة لغوية خاصة، ولما كانت الكلمة هي أساس هذه العلاقة اللغوية، تناولها في بناء الصورة الشعرية والجملة الشعرية، وحلل عدة ظاهرات لدور الكلمة هي: التكرار، التضاد، والصفة... ثم حلل العلاقة القائمة بين طرفي الصورة وبالتحديد (الاستعارة والتشبيه)، وتناول الصورة حين تكرر وتصبح رمزاً شعرياً. ثم تناول تركيب هذه الصورة للقصيدة بعد أن حلل علاقاتها ليرى دورها في تشكيل القصيدة»(1).
إنه أحد أشرق الوجوه الشعرية التي أضاءت
سماء شعرنا العربي، منذ النشأة إلى يومنا هذا، ذلك الزائر الغريب الذي أطلّ
كنجم ساطع، إطلالة لم تطل وسرعان ما أفل وخبا، بيد أن آثاره لاتزال راسخة،
ويستحيل أن تُمحى من ذاكرة الأجيال.
وبمناسبة حلول الذكرى المئوية لميلاده ارتأينا تقديم هذه الدراسة المتواضعة التي هي بمثابة تحية إكبار وتقدير وإعجاب بهذه الشخصية الفذة، وإجلالاً لذكراه، وتوقيراً لقامته السامقة، ومدرسته الشعرية الساحرة، وإشادة بنبوغه وعبقريته الباهرة.
وبمناسبة حلول الذكرى المئوية لميلاده ارتأينا تقديم هذه الدراسة المتواضعة التي هي بمثابة تحية إكبار وتقدير وإعجاب بهذه الشخصية الفذة، وإجلالاً لذكراه، وتوقيراً لقامته السامقة، ومدرسته الشعرية الساحرة، وإشادة بنبوغه وعبقريته الباهرة.
نحاول من خلال هذه الدراسة نفض جراب بعض
الأبحاث التي صدرت عن أبي القاسم الشابي، ومن خلال ذلك نكتشف رؤية النقاد
لمدرسته وتجربته، ونتبصر في أهم النتائج المتوصل إليها، وإن أول ما يعترضنا
في هذا المجال هو كيفية الاختيار والتمييز، فمن الصعوبة بمكان الإلمام
بجميع الدراسات التي تعرضت لتجربة باذخة كتجربة الشاعر الكبير أبي القاسم
الشابي في سطور وصفحات معدودات، فبالرغم من رحلة العمر القصيرة (1909 –
1934م) بيد أن شاعرنا تبوأ مكانة مرموقة بين شعراء العروبة، فهناك عشرات
الدراسات التي صدرت عنه في شتى أصقاع الوطن العربي، وأياً ما يكن الشأن
فإننا ندلو بدلونا، وشعارنا في ذلك قول الدكتور أحمد زكي أبي شادي: «إن
قراء العربية لن يملوا من قراءة ما كُتب، وما سيكتب عنه، ولو تعددت التراجم
والدراسات».
وقد وقع اختيارنا على ثلاث دراسات تعدّ في نظرنا
جديرة بالقراءة والاستعراض، كونها تتميز بتنوعها في طريقة تناولها لشعر أبي
القاسم الشابي.الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي:
مؤلف هذا الكتاب هو الأستاذ مدحت سعد محمد الجبار، ويتميز هذا الكتاب عن سالفه كونه يرصد ظاهرة بعينها، ويتناولها بالدراسة والتحليل، حيث إن الباحث يهدف من خلال هذا المصنف إلى البحث في جوهر الشعر عند الشابي، من خلال اختيار الصورة الشعرية التي يرى الباحث بأنها ظلت جانباً مهملاً في دراسته، وعن منهجه في رصد هذه الظاهرة فهو يتناولها «بطريقة تحليلية تركيبية، ينظر إلى الصورة الشعرية على أنها علاقة لغوية خاصة، ولما كانت الكلمة هي أساس هذه العلاقة اللغوية، تناولها في بناء الصورة الشعرية والجملة الشعرية، وحلل عدة ظاهرات لدور الكلمة هي: التكرار، التضاد، والصفة... ثم حلل العلاقة القائمة بين طرفي الصورة وبالتحديد (الاستعارة والتشبيه)، وتناول الصورة حين تكرر وتصبح رمزاً شعرياً. ثم تناول تركيب هذه الصورة للقصيدة بعد أن حلل علاقاتها ليرى دورها في تشكيل القصيدة»(1).
عرض الباحث في مقدمته للصورة الشعرية
كعلاقات لغوية خاصة يقيمها الشاعر في لغته، وذلك لتصوير رؤيته الجمالية
لواقعه، فيرى بأن الصورة هي حل لأزمة اللغة التي يقف الشاعر حائراً أمامها
حين يرغب في تخصيص تجربته، كما تناول الصورة الشعرية بين التشكيل والموقف.
وحاول الباحث استجلاء خصائص الصورة
الشعرية عند أبي القاسم الشابي، وذلك بعرض مفهومها النظري، مركزاً في ذلك
على رسالة بعث بها الشاعر إلى صديقه محمد الحليوي مدافعاً فيها عن رأيه في
شعر أبي شادي، ولكي يؤكد على صاحبه أنه لم يظلمه، وقد أوجز الباحث خصائص
الصورة الشعرية عند الشابي في ست نقاط:
– الصورة واضحة كاملة: فلقد عاب الشابي
صور أبي شادي لأنها لا تبدو واضحة متكاملة، ومعنى ذلك أنه يشترط فيها
الوضوح والكمال، وهذا يعني إيصال الصورة الشعرية لإحساس وشعور الرومانسي
مباشرة دون أن ينشغل المتلقي بغيرها.
– الصورة غائمة، غير ملتاثة: فقد استهجن الشابي صور أبي شادي، لأنها تتبدى غائمة وملتاثة، وبذلك فهو لا يحبذ التغيم والتلوث.
– الصورة متأنية: وذلك لأن أبا القاسم عاب صور أبي شادي، لأنها لا تعطي الفرصة للمتلقي حتى يتذوقها، وينعم النظر فيها.
– الصورة الشعرية شعورية: فالشابي يرى أن جوهر الخيال الشعري هو الشعور، ودرجة الخيال تتوقف على درجة شعور الشاعر.
– الصورة حل لمشكلة اللغة: وهو يفسر ذلك
بأن اللغة العادية لا يمكن أن تشكل صورة شعرية، فالشعور خاص، ومتدفق،
ودافئ، واللغة العامة تكون باردة.
– الصورة تشخيصية: فالشابي يؤكد أن جوهر الخيال الشعري هو التشخيص، وذلك عن طريق بث الحياة في الواقع، وإسقاط ذات الشاعر عليها.
أما التشكيل الجمالي للصورة الشعرية عند
الشابي، فقد حلله الباحث، وهو بصدد الوصول إلى موقفه من الواقع، كما أنه لا
يفصل الصورة الشعرية عن علاقاتها بداخل القصيدة، وذلك باعتبار أن الإلحاح
الدائم على صورة من الصور هو في حد ذاته يمثل تشكيلاً جمالياً ذا دلالة،
ويشير الباحث إلى أن موضوعات شعر الشابي تبين اتجاهات الصورة الشعرية عنده،
فهي الجوهر، وهي القادرة على استكناه التجربة الشعرية، ونقل عالمه الداخلي
مشكلاً تشكيلاً جمالياً في قصائد شعرية، وبذلك يتحدد موقفه من الواقع، وقد
تبدى للباحث أن «الصورة الشعرية عند الشابي بدأت كلاسيكية في تجاربه
الأولى ثم بدأت تخلط بين الكلاسيكية والرومانسية ثم أصبحت بعد ذلك رومانسية
الاتجاه، وليس معنى هذا أن هناك صورة شعرية رومانسية، أو صورة شعرية
واقعية، أو صورة شعرية كلاسيكية، فهذا الفرق غير موجود في الواقع وإنما
يأتي هذا التحديد من أجل الدراسة، ثم إنه يتحدد وفق علاقة طرفي الصورة
الشعرية وخصوصاً بين طرفي التشبيه (المشبه والمشبه به) أو بين طرفي
الاستعارة (المستعار منه والمستعار له) فإذا كانت هذه العلاقة تقوم على
المنطقة والفصل بين الطرفين فإنها تناسب العقلية الكلاسيكية، وإذا قامت على
الصهر فهي تناسب العقلية الرومانسية التي تقوم على الوحدة بين الشاعر
والأشياء والاتحاد بها»(2)، وبعد تحليل عميق استخرج الباحث موقف الصورة
الشعرية في بناء القصيدة، وأوجزه في عدة نقاط.
وعلى اعتبار أن الكلمة هي أساس التشكيل
الجمالي للشعر، وأن الصورة الشعرية كعلاقة لغوية تعتمد الكلمة أمراً رئيساً
في تركيبها، فإن الباحث يرصدها ويروز في دورها في بناء الصورة الشعرية،
وقد تبدى له أن للكلمة وظائف ثلاثاً عند الشابي: التكرار، والتضاد، والصفة.
فالتكرار عند الشابي ينصب حول الكلمة
والعبارة والجملة، وقد أقام الباحث لرصد هذه الظاهرة دراسة تطبيقية، فنلفيه
يعرض شواهد ونماذج من شعر أبي القاسم، ثم يتبعها بالتحليل والتعليل،
فالبنسبة إلى تكرار الكلمة، فالشابي في تكراره كثيراً ما يستسلم للتداعي،
ويكرر الكلمة مرات متتالية حتى تكون لها وظيفة جمالية، فعلى سبيل المثال في
قصيدته «الكآبة المجهولة» «نلمح دور الكلمة المتكررة في بناء الصورة
الشعرية، حيث يكرر الشابي كلمة الكآبة (كآبتي – كئيب – يكتئبا – اكتئابي)
ويخلق في كل مرة صورة شعرية جديدة، وقد كرر مادة (الكآبة) ثلاث عشرة مرة،
وهذا العدد الكبير يعكس إلحاح الشابي على بيان موقفه الكئيب، وإظهار شعوره
المتضخم بها، وكيف أنها تردد في كل مقطع من القصيدة بطريقة متقاربة... يكرر
الشابي كآبتي مقيماً بنفس الكلمة صورة شعرية جديدة، حين يجعلها فكرة مفردة
مجهولة، لا يسمعها أحد ولا يشفق عليها أحد من العالمين، لقد تحولت كآبته
إلى فكرة مجردة في سمع الزمن، ولم يسمعها إلا الشاعر، سمعها في شبابه الثمل
والغض، والذي كان يجب أن يسمع فيه نغمات السرور، إنه ينعى حظه العاثر،
وانصرف ولكن يقول عن نفسه (فانصرفت مكتئبا) يفنى حزنه مثل طائر الجيل
الحزين، والشاعر يؤكد كآبته بكل الصور الصرفية، فهو أولاً كئيب، وكآبته
خالفت نظائرها... ويلاحظ على سياق الصور الشعرية أنها تدخل في إطار هذه
الكآبة أيضاً، فالشابي يكرر كئيب، كآبة، مكتئب، وتساعده الصور الأخرى في
استكناه تجربته الحزينة.. والإلحاح على مادة الكآبة يعكس هذا الواقع النفسي
الحزين والمحزن الذي يعانيه الشابي حتى يتضخم الإحساس، فيرى الشاعر أن
حزنه فوق حزن البشر، مكرراً الكآبة بالإضافة أو التخصيص، يقول:
كآبة الناس شعلة، ومتى مرت ليال خبت مع الأمد
أما اكتئابي فلوعة سكنت روحي، وتبقى بها إلى الأبد
كآبة الناس شعلة، ومتى مرت ليال خبت مع الأمد
أما اكتئابي فلوعة سكنت روحي، وتبقى بها إلى الأبد
... ونلاحظ صورتين جديدتين من نفس الكلمة
المكررة (كآبة الناس شعلة) (أما اكتئابي فلوعة سكنت روحي)، وهو تكرار يعكس
الإلحاح والتوكيد على دلالة الحزن العقيمة المجهولة التي تضخمت في عين
الشاعر حتى سدت كل السبل وفاقت كل البشر.
ويعود فيكرر نفس الصفتين، (أنا كئيب، أنا
غريب)، وهو يستأنف مقطعاً جديداً يتحدث فيه عن كآبته أيضاً، وهذه المرة،
يتصور عالماً للكآبة.
وليس في عالم الكآبة من يحمل معشار بعض ما أجد
كآبتي مرة، وإن صرخت روحي فلا يسمعنها الجسد
وهي مرة حين تذوقها، ويلاحظ أن الشاعر
يحاول التجديد في صور الكآبة، ليكرر صوراً جديدة تفرغ ما بداخله وتطرح
موقفه المستسلم لهذا الحزن الطافح به»(3)، إن تكرار الكلمة يعج في شعر
الشابي، ويقدم المؤلف جُملة من الشواهد والنماذج ويستدل ويحلل من خلال هذا
التكرار ويرصد سماته ودوره ودلائله، ومن بين هذه النماذج قصيدة «الدموع»،
حيث إن الشاعر يكرر كلمة نفسي في كل مرة، وفي كل تكرار هناك خلق لصورة
شعرية جديدة، كما أن هناك نماذج لتكرار الكلمة الاسم، كما أنه يكرر الحرف
أيضاً، ومن ذلك تكراره لحرف الكاف في التشبيه، وأدوات النداء أو العطف،
وأحياناً تجده يكرر الكلمة عندما تكون ضميراً، ومن أبرز الملاحظات التي
أشار إليها الباحث أن الشابي يكرر ضمير الخطاب «أنت»، وهذا ما يجعله في نفس
الوقت طرفاً ثالثاً في تشكيل الصورة، ويمكنه من إنشاء علاقات مع كلمات
أخرى تشكل صوراً جديدة، وقد تجلى هذا التكرار في مجموعة من القصائد، من
بينها قصيدة «أين قلبي التائه»، فهو يكرر الضمير، ويخلق صوراً شعرية جديدة،
ويؤكد المشبه، ويبرز من المشبه صوراً عديدة تصور واقعه النفسي فالشاعر:
«يكرر ضمير الخطاب أنت، ولذلك دلالته على رغبة الشاعر في أن يجسد القلب
إنساناً يخاطبه، فهو في أول البيت، قال له: أنت يا قلبي قلب... إلخ. ثم
تناسى كلمة القلب وأبقى على الضمير حتى يستحضر صورة قلبه، يستسلم للتداعي،
ويسترسل حول الصور التي تدور حول محور الشاعر لفيض نفسه، فاستخدم التكرار
هنا حتى يستعيد في كل مرة صورة قلبه.. ثم يثبت المشبه ويخلق في كل مرة
علاقة مع مشبه به جديد يعطي صورة جديدة للظلام المخيم على قلبه. المشبه
أنت، قم تتوالى صور: الحقل – الليل – الكهف – الصرح – القبر – العود –
اللحن – الأنشودة، تنويعات على مشبه واحد.
وعندما يكرر الضمير بهذا الإلحاح، ويؤكده، ويذكر صوراً متعددة تعكس واقع الشاعر السيئ، ومدى ما وصلت إليه أحاسيسه ناحية قلبه من هذا التضخم، الذي لم تستطع صورة واحدة، أن تصوره، وإنما اعتمد الشاعر على عشرة تكرارات، تقلب وجوه الواقع النفسي للشاعر»(4)، وفي الختام يستجلي الباحث النقاط الرئيسة، والمقاصد التي يدور حولها تكرار الشابي، ومن أهمها:
«تكرار الكلمة وخلق صورة شعرية جديدة، في كل مرة (تكرار رأسي)
تكرار الكلمة مرتين وخلق صورة من الكلمة الثانية (تكرار أفقي)
تكرار الكلمة وبدء مقطع شعري جديد في كل مرة
تكرار الكلمة وبدء صورة شعرية جديدة بعيدة عنها.
وعندما يكرر الضمير بهذا الإلحاح، ويؤكده، ويذكر صوراً متعددة تعكس واقع الشاعر السيئ، ومدى ما وصلت إليه أحاسيسه ناحية قلبه من هذا التضخم، الذي لم تستطع صورة واحدة، أن تصوره، وإنما اعتمد الشاعر على عشرة تكرارات، تقلب وجوه الواقع النفسي للشاعر»(4)، وفي الختام يستجلي الباحث النقاط الرئيسة، والمقاصد التي يدور حولها تكرار الشابي، ومن أهمها:
«تكرار الكلمة وخلق صورة شعرية جديدة، في كل مرة (تكرار رأسي)
تكرار الكلمة مرتين وخلق صورة من الكلمة الثانية (تكرار أفقي)
تكرار الكلمة وبدء مقطع شعري جديد في كل مرة
تكرار الكلمة وبدء صورة شعرية جديدة بعيدة عنها.
وقصد الشابي من أنواع التكرار السابقة
التفريع، بعد أن يجعل، أو يتكلم بصورة عامة وقد يقصد التخصيص، حيث يخصص
حالة محددة، أو شعوراً معيناً، ليلفت النظر إليه وقد يقصد الإقناع
والتنبيه، حيث يلح على صورة أو كلمة محددة تدخل في نسيج الصورة، فيعدد
صوراً، متعددة ليقنع المتلقي أو يضخم إحساسه تجاه موقف معين.
ويستخدم التكرار لهذا الغرض ليساعد الصورة الشعرية في تصوير موقفه وتشكيله وحتى يؤثر في المتلقي.
ويستخدم التكرار لهذا الغرض ليساعد الصورة الشعرية في تصوير موقفه وتشكيله وحتى يؤثر في المتلقي.
وقد يقصد بيان التناقض أو الاضطراب بين
الأشياء، فيستخدم كلمة كطرف في الصورة، ويغير علاقتها مع كلمات أخر، فيأتي
بعلاقات متضادة مع ثبات الكلمة حتى يكشف التضاد والتناقض والاضطراب، في
واقعه النفسي وواقعه الاجتماعي... ويلاحظ على ظاهرة التكرار، أن الشابي
لديه تكرار أفقي وتكرار رأسي... والتكرار الرأسي يخضع للتداعي، وتعداد صور
الأشياء، والتكرار الأفقي والرأسي أيضاً يخضعان لإيقاعات وإيحاءات موسيقية
يألفها الشابي، فتتابع كلمة محددة، رأسياً أو أفقياً هو تكرار لإيقاعات
منتظمة معينة»(5).
وبالنسبة إلى دور التضاد والصفة في بناء الصورة الشعرية عند الشابي فكثيراً ما يُلح على التضاد، ويركز على تشكيل قصائده على النقائض، وكل ذلك بغية استيضاح التناقض الموجود في واقعه الاجتماعي والنفسي، وكثيراً ما يعني التضاد عنده التردد، والحيرة، ويعبر عن رؤيته العاجزة المتشائمة، أو رؤيته الحالمة والنازعة نحو التغيير والعالم الأفضل، كما يوظفه في المقارنة بين ما هو كائن، وما هو موجود في الواقع، وما ينبغي أن يكون ويوجد، ومن أبرز القصائد التي توضح هذا الأمر قصيدة «صوت التائه»، فمن خلالها يستخدم التضاد في تشكيله للصورة الشعرية، وذلك لملاءمته لعالم التائه والمتردد المبني على ما هو عكسي.
وأما الصفة فشأنها كشأن التضاد من حيث الكثرة، فهو يكثر من الصفات حتى يضمن التلاؤم بين الواقع النفسي وتلونات الصورة الشعرية، فهو يقدم صورة الليل ويلونها بألوان من إسقاطاته النفسية، فيصفها بالفرح، والحزن، والجمال، والرهبة، والكآبة والغرابة، والعتامة، وبعد أن انتهى المؤلف من رصد أدوار كل من التكرار والتضاد والصفة في بناء الصورة الشعرية، يتطرق إلى أدوارها في بناء الجملة الشعرية.
وبالنسبة إلى دور التضاد والصفة في بناء الصورة الشعرية عند الشابي فكثيراً ما يُلح على التضاد، ويركز على تشكيل قصائده على النقائض، وكل ذلك بغية استيضاح التناقض الموجود في واقعه الاجتماعي والنفسي، وكثيراً ما يعني التضاد عنده التردد، والحيرة، ويعبر عن رؤيته العاجزة المتشائمة، أو رؤيته الحالمة والنازعة نحو التغيير والعالم الأفضل، كما يوظفه في المقارنة بين ما هو كائن، وما هو موجود في الواقع، وما ينبغي أن يكون ويوجد، ومن أبرز القصائد التي توضح هذا الأمر قصيدة «صوت التائه»، فمن خلالها يستخدم التضاد في تشكيله للصورة الشعرية، وذلك لملاءمته لعالم التائه والمتردد المبني على ما هو عكسي.
وأما الصفة فشأنها كشأن التضاد من حيث الكثرة، فهو يكثر من الصفات حتى يضمن التلاؤم بين الواقع النفسي وتلونات الصورة الشعرية، فهو يقدم صورة الليل ويلونها بألوان من إسقاطاته النفسية، فيصفها بالفرح، والحزن، والجمال، والرهبة، والكآبة والغرابة، والعتامة، وبعد أن انتهى المؤلف من رصد أدوار كل من التكرار والتضاد والصفة في بناء الصورة الشعرية، يتطرق إلى أدوارها في بناء الجملة الشعرية.
إن الشابي يعتمد الاستعارة والتشبيه
كأداتين من أدوات الصورة، ونوعين أساسيين، وقد وجد الباحث أن الاستعارة هي
التي نالت حصة الأسد من حيث الغلبة على شعره بالمقارنة مع التشبيه، فالشابي
رائد من رواد الرومانسية فلا شك أن ذاته تنصهر مع موضوعه، ومن ثم تنطلق
صوره الشعرية من هذه الانصهارة الموحدة بين الذات والموضوع، وتشكيل
الاستعارة عند الشابي – كما يراه المؤلف – يتجه نحو تجسيد المعاني
وتشخيصها، حيث يجعل طرفاً من طرفي الصورة فعلاً إنسانياً، أو صفة إنسانية،
وكثيراً ما يستخدم أعضاء الإنسان والحيوان كطرف حسي أمام الطرف الثاني
للاستعارة.
ويقدم المؤلف شواهد تطبيقية، ويدعم كلامه بالتحليل العميق في رصد هذه الظاهرة، ومن الأمثلة التي يقدمها قول الشاعر:
في سكون الليل لما
عانق الكون الخشوع
واختفى صوت الأماني
خلف آفاق الهجوع
رتّل الرعد نشيداً
رددته الكائنات
رنمتها بخشوع
مهجة الكون الحزين
في سكون الليل لما
عانق الكون الخشوع
واختفى صوت الأماني
خلف آفاق الهجوع
رتّل الرعد نشيداً
رددته الكائنات
رنمتها بخشوع
مهجة الكون الحزين
فمن خلال هذه المقطوعة «يريد الشاعر أن
يصور صوت الرعد في سكون الليل في الكون كله، فيستخدم الاستعارة أداة فنية
لهذا التصوير، فالخشوع، وصوت الأماني، ومهجة الكون، مجردات، والرعد ظاهرة
طبيعية، والشاعر يستخدمهم جميعاً داخل الاستعارات (عانق الكون الخشوع –
اختفى صوت الأماني – رتل الرعد – رنمتها مهجة الكون)، التي تصور هذا
المشهد، فالوقت سكون الليل، وحين عم الصمت كل الأشياء، ويعبر الشاعر عن هذا
الصمت بعناق الخشوع للكون، حين يلف الخشوع ذراعيه حول الكون ويعمه، فهي
لحظة صداقة ومودة، ويعبر الشاعر عن الصمت بالخشوع لأنه يستلزم الصمت
الوقور، والفعل عانق داخل الاستعارة يعطي دلالة الصمت التام في هذا السكون
الليلي، وفي هذا الخشوع الصامت، يختفي صوت الأماني وهي استعارة تناسب موقف
الصمت وفعلها (اختفى) يمهد المشهد لهزة عنيفة تفاجئ هذا الصمت وتشقه، ويظهر
الرعد صوته الذي يسمع في كل مكان في الكون، ويصور الشاعر صوت الرعد في
صورة الترتيل والنشيد، الذي تردده الكائنات، وهي صورة تعكس صدى الصوت في كل
مكان، ويلاحظ أن خيطاً أسطورياً يحيط هذا المشهد بصوره وكلماته، (الخشوع –
الهجوع – رتل – رددته – رنمتها – بخشوع)، كما تصور الاستعارات (عانق
الخشوع – اختفى صوت الأماني – رتل الرعد – رددته الكائنات – رنمتها بخشوع)
هذا المشهد الأسطوري، وهي استعارات تستخدم أفعالاً لها إيحاءاتها الدينية،
مما يعكس قدسية الموقف ومدى الرهبة التي يحسها الشاعر تجاه هذه الظاهرة وهي
استعارات تجسد وتشخص السكون وصوت الرعد وصداه»(6).
وغير هذه القصيدة الكثير من القصائد التي يوجد فيها الكثير من الاستعارات، ومن بين هذه القصائد قصيدة «أراكِ» وغيرها.
وفي ختام تناوله للاستعارة يلفت الانتباه
إلى جملة من القصائد ففي «(جدول النور)، (ذبل حبوري)، (جناح الفجر)، (صراخ
الصباح)، (نوح المسا)، (شوك الأسى)، (فيض حزني)، (دمع المسا)، (حزن
الدهور)، (أنشودة الفجر)، (ندب الأماني)، (صوت الظلام)، (ظل الإله)، (إعصار
الحياة)، (خمرة نفسي)، (أزاهير قلبي)، (كهف الوحدة)، (عدوة الوادي)،
(أكواخ الطفولة)، (قصف الرعود)، (جهنم الألم)... إلخ.
صور شعرية تستخدم أحد طرفي الصورة طرفاً حسياً ليظهر المجرد وغير الملموس ويتضح فيها التشخيص في العلاقات التي يقيمها الشاعر بين طرفي الصورة. وهذه العلاقات تقوم على الإضافة بين الطرفين، ونحت دلالة جديدة منهما، حتى يصبح – الطرفان – دلالة واحدة ولكنها – في النهاية – تتسم بالانصهار، أي يصبح المستعار له والمستعار منه شيئاً واحداً، وهذه الوحدة، لا تخلق التفاعل بين طرفي الصورة الشعرية، صحيح أنها تقدم الصورة الشعرية مجسدة مشخصة، يسهل إدراكها، وتمثيل دلالتها، ولكن ثراء الصورة الشعرية، ينتج من إيحاءاتها المتعددة التي تشع في كل اتجاه خالقة عبر العلاقة اللغوية الخاصة، دلالة جديدة ليست أياً من أحد الطرفين على حدة»(7).
صور شعرية تستخدم أحد طرفي الصورة طرفاً حسياً ليظهر المجرد وغير الملموس ويتضح فيها التشخيص في العلاقات التي يقيمها الشاعر بين طرفي الصورة. وهذه العلاقات تقوم على الإضافة بين الطرفين، ونحت دلالة جديدة منهما، حتى يصبح – الطرفان – دلالة واحدة ولكنها – في النهاية – تتسم بالانصهار، أي يصبح المستعار له والمستعار منه شيئاً واحداً، وهذه الوحدة، لا تخلق التفاعل بين طرفي الصورة الشعرية، صحيح أنها تقدم الصورة الشعرية مجسدة مشخصة، يسهل إدراكها، وتمثيل دلالتها، ولكن ثراء الصورة الشعرية، ينتج من إيحاءاتها المتعددة التي تشع في كل اتجاه خالقة عبر العلاقة اللغوية الخاصة، دلالة جديدة ليست أياً من أحد الطرفين على حدة»(7).
أما عن التشابيه، فالشابي يشكل تشبيهاته
«بطرق مختلفة، ومتداخلة، فقد يراعي التشبيه النسبة المنطقية بين طرفي
التشبيه – المشبه والمشبه به – ، ويركز في ذلك على العلاقات الشكلية
والسطحية والشكل الخارجي والمشابهة الحرفية والحسية بين الطرفين، دون أن
يراعي التناسب النفسي أو المشابهة النفسية التي تربط بين المشبه والمشبه
به، ودون أن يراعي البعد الرمزي للمشبه به، وذلك في الأعمال الأولى –للشابي
– كما يوجد في تشبيه التمثيل مثلاً.
وقد تقوم العلاقة بين طرفي التشبيه على
المشابهة النفسية، بل والتداعي النفسي، أي تداعي الصور – التشبيهية –
المتشابهة كما يلمح ذلك في قصيدته «صلوات في هيكل الحب» على سبيل
المثال»(8)، ومن القصائد التي تتجلى فيها التشابيه قصيدة «الغزال الفاتن».
كم قلوبٍ تفطرت
ودمٍ صار مُهْرَقا
ودموع تسلسلت
مثل غيمٍ تدفّقا
ودمٍ صار مُهْرَقا
ودموع تسلسلت
مثل غيمٍ تدفّقا
دون أن تبلغ النفــوس رُضابا مُروّقا
وشقيقٍ بخدّه
مهج الخلق شققا؟
ثغره من عقوده
ودموعي تنسّقا
خصرُهُ من نحافتي
ونحولي تمنطقا
مرْشَفَاه بخدِّه
ودمائي تخلَّقا
من لظى جَمرِ خدِّه
كبدي قد تحرّقا
قدُّه فوق رِدْفِهِ
غصنُ بانٍ على نقا
جيدُهُ تحت فرعِهِ
برقُ غيمٍ تألّقا
هِمْتُ وَجْداً بحبِّه
قد رنا لي فأحرقا
نسبي في غرامه
نسبٌ صار مُعْرِقا
وشقيقٍ بخدّه
مهج الخلق شققا؟
ثغره من عقوده
ودموعي تنسّقا
خصرُهُ من نحافتي
ونحولي تمنطقا
مرْشَفَاه بخدِّه
ودمائي تخلَّقا
من لظى جَمرِ خدِّه
كبدي قد تحرّقا
قدُّه فوق رِدْفِهِ
غصنُ بانٍ على نقا
جيدُهُ تحت فرعِهِ
برقُ غيمٍ تألّقا
هِمْتُ وَجْداً بحبِّه
قد رنا لي فأحرقا
نسبي في غرامه
نسبٌ صار مُعْرِقا
فمن خلال هذه القصيدة تحدث الشاعر عن
محبوبته، ووصف أدق الوصف حالته معها، وكيف أن الكثير من الأفئدة تفطرت من
حب وعشق هذه الفاتنة، وكم من الدماء أهرقت في سبيلها، وأنهارٌ من العبرات
نزلت وتسلسلت من كثافتها، كتسلسل الغيم المتدفق.
وفي الفصل الثالث الموسوم بـ« الصورة
الشعرية الرمز» يركز الباحث اهتمامه على الصورة الشعرية المتكررة من خلال
ديوان الشابي فهي «تأخذ بعداً رمزياً، فالصورة يمكن استثارتها مرة على سبيل
المجاز، لكنها إذا عاودت الظهور بإلحاح، كتقديم وتمثيل على السواء، فإنها
تعد رمزاً، وقد تصبح جزءاً من منظومة رمزية أو أسطورية، فالصورة علاقة
لغوية تأتي على سبيل المجاز ليصور الشاعر بها رؤيته، ولكن بعض الصور تتكرر
خلال أعمال الشاعر وفي هذه الحالة تصبح رمزاً شعرياً، يحمل دلالة رمزية
محدودة، ثم تتعمق هذه الدلالة مرة بعد مرة... ويأخذ الشابي من الليل،
والمساء، والصباح، والفجر، واليد، والكف، والحلم، كما يستخدم رموز الفصول
الأربعة: الشتاء والخريف في مقابل الصيف والربيع، رموزاً شعرية يشكل بها
رؤيته الجمالية، فيجعل الليل والمساء موازيين للظلم والجهل والموت، وفي
المقابل يجعل الفجر والنور والصباح موازية للحرية والانطلاق. ويمثل الحلم
رمزاً للأمل والكف رمزاً للبطش والقوة. والفصول الأربعة يحمل كل منها
رمزاً. الربيع والصيف رمز الخير والجمال، والشتاء والخريف رمز الموت
والجمود»(9)، كما يرى بأن رموز الشابي تأتي أحياناً مركبة ومتداخلة، فتجد
تصارع الليل والحلم، والخوف والربيع، وهو بتداخله هذا يكشف عن خبايا صراع
الأضداد في الواقع المعيش، كما يستخدم أكثر من رمز واحد، وذلك بدلالة
واحدة، مثل استخدامه لليل والمساء بدلالة واحدة، أو الفجر والصباح، أو تجده
معبراً عن انسحاب واقعه بانسجام الربيع والحلم، والفجر والربيع، والصباح
والربيع، ويتتبع المؤلف هذه الرموز ويرصد دلالاتها، فرمز الليل يستخدمه
الشاعر كصورة موازية رمزياً للظلم والحزن، وقتل الأحلام، وكذلك للغربة،
والخوف، والضعف، والقسوة في نفس الآن، كما أنه يستخدمه في نواح أخرى
عكسياً، أي إنه كمواز للحب والجمال، وقد توصل الباحث إلى أن أغلبية
استخداماته كانت للدلالة على الحزن والشجن والظلمة، ومن القصائد التي تجلت
فيها استخداماته لحمل دلالة الظلم، قصيدة «تونس الجميلة»، وقصيدة «إرادة
الحياة»، فقد استخدم الشاعر صورة الليل في المرة الأولى مركبة، وأما في
الثانية فقد استخدمت كرمز واضح للظلم والمستعمر، ومن القصائد التي استُخدم
فيها كرمز يحمل دلالات للظلم متعددة، ووجوهاً شتى قصيدة «الزنبقة الداوية»،
وتوصل الباحث بعد أن تناول مجموعة من القصائد إلى أن رمز الليل حمل العديد
من الدلالات، من بينها: الحزن، والبكاء، والتوجع، والرعب، والأنين،
والبؤس، والقسوة، والرهبة، كما يحمل دلالات للسحر، والحب، والأحلام،
والسكون، ومثال ذلك ما تجلى في قصيدة «تحت الغصون»، أما في بعض الأحيان
فيمزج الشاعر الليالي مع الخريف حتى تزداد الدلالة عمقاً وثبوتاً، فالليالي
تحمل دلالة القتل وتدمير الحياة، والخريف يحوي دلالة الموت والذبول، أما
رمز الفجر، فتحمل صورته «دلالة الجديد الخالد، والإشراق، والأمل، والحرية.
ولذلك فهو مواز رمزي يتناقض مع الرمز السابق – الليل – وهي طريقة الشابي
التشكيلية، لأنه مغرم بالمتناقضات والمتضادات، حتى في رموزه الشعرية نجد
الرمز والنقيض. فالفجر ليس كئيباً كالليل، وإنما هو جميل، خالد، سرمدي، ولا
ينتهي، يتغزل فيه الشاعر»(10) فهو القائل:
وتغزلت بالربيع وبالفجر
فماذا ستفعل الرياح بعدي
وتغزلت بالربيع وبالفجر
فماذا ستفعل الرياح بعدي
ويبدو في العديد من أشعار الشابي أن الفجر
هو الموازي الرمزي الذي يناقض الليل، ويقدم دلالات وإيحاءات متعددة،
وكثيراً ما يسقط عليه الشاعر صفات الجمال، والخلود، والسرمدية، والسحرية،
والوداعة، وهلم جراً.
أما بالنسبة إلى رمز الكف فإن الشاعر يستخدم صورته «كمواز رمزي للبطش والموت والعسف، ولذلك تجده يسندها، أو يقيم علاقات لغوية بين الكف والموت، والردى، والأسى، والظلام، والظلم، والبطش، والجدب، مما يكشف لنا أبعاد هذا الرمز الشعري داخل الشابي، ويكشف عن موقفه من أدوات البطش، فاليد هي وسيلة البطش وأداته، ولذلك يمقتها بل ويصفها بصفات تسقط حنقه على أدوات البطش والقهر والظلم كلها، فالكف تأتي كفاً للردى:
فافتك منها بعنف
كف الردى أبويها
أما بالنسبة إلى رمز الكف فإن الشاعر يستخدم صورته «كمواز رمزي للبطش والموت والعسف، ولذلك تجده يسندها، أو يقيم علاقات لغوية بين الكف والموت، والردى، والأسى، والظلام، والظلم، والبطش، والجدب، مما يكشف لنا أبعاد هذا الرمز الشعري داخل الشابي، ويكشف عن موقفه من أدوات البطش، فاليد هي وسيلة البطش وأداته، ولذلك يمقتها بل ويصفها بصفات تسقط حنقه على أدوات البطش والقهر والظلم كلها، فالكف تأتي كفاً للردى:
فافتك منها بعنف
كف الردى أبويها
فكف الردى مواز شعري للموت والقهر، ولذلك
نجد استخدام الشابي للأفعال والصفات التي تحمل نفس الإيحاء، ليثري رمزه
الشعري، فكف الردى تأخذ بعنف والدي الفتاة... والكف، كف الأذى والأسى تحطم
الأشياء الغالية المحببة لدى الشاعر، يقول:
حطمت كف الأسى قيثارتي في يد الأحلام
إنها كف محطمة، تحطم آلة الشاعر الغنائية ولا ترحم، بل إنها لا تحب غناء الشاعر»(11).
ورمز الحلم لدى الشابي هو مواز رمزي للأمل، وكلما أنعم القارئ النظر وجد له إيحاءً جديداً، ويمثل هذا الرمز ما يأمله الشاعر، وما يأمل في صوغه من علاقات واقعه، كما وظف الشاعر رمز الحلم موازياً رمزياً للضعف والأمل الخادع، ويسقط عليه جملة من الصفات: كالجمال، والسحر، والوداعة، وغيرها من شتى الصفات التي أسقطها على رمز الفجر، وحمل رمز الربيع في شعر أبي القاسم رمز النماء، والخصب، وواهب الحياة، والمنظر الجميل، وهو مواز رمزي للخصب، وأما رمز الخريف فقد استعمل كمواز رمزي للموت والذبول، ودلالاته تحوي ذبول الجمال، والقبح، والظلام، والموت، وهلم جراً.
حطمت كف الأسى قيثارتي في يد الأحلام
إنها كف محطمة، تحطم آلة الشاعر الغنائية ولا ترحم، بل إنها لا تحب غناء الشاعر»(11).
ورمز الحلم لدى الشابي هو مواز رمزي للأمل، وكلما أنعم القارئ النظر وجد له إيحاءً جديداً، ويمثل هذا الرمز ما يأمله الشاعر، وما يأمل في صوغه من علاقات واقعه، كما وظف الشاعر رمز الحلم موازياً رمزياً للضعف والأمل الخادع، ويسقط عليه جملة من الصفات: كالجمال، والسحر، والوداعة، وغيرها من شتى الصفات التي أسقطها على رمز الفجر، وحمل رمز الربيع في شعر أبي القاسم رمز النماء، والخصب، وواهب الحياة، والمنظر الجميل، وهو مواز رمزي للخصب، وأما رمز الخريف فقد استعمل كمواز رمزي للموت والذبول، ودلالاته تحوي ذبول الجمال، والقبح، والظلام، والموت، وهلم جراً.
وفي الفصل الأخير من الكتاب، والموسوم بـ«
دور الصورة في تشكيل القصيدة»، يعرض المؤلف لدور الصورة الشعرية في عدة
أبنية: البناء النامي، وبناء الصورة المتكررة (المركزية)، وبناء التضاد،
والبناء المركزي، والبناء السردي، وقد لاحظ الباحث أن البناء النامي يستقطب
أكثر من ثلثي قصائد الشاعر، وهو الذي يمثل الدور الأساسي للصورة، ويتجلى
هذا التشكيل الجمالي النامي في قصيدة «شكوى اليتيم»، فكل مجموعة من الصور
تمثل جزءاً من موقف الشاعر، وتضيف جزءاً جديداً إلى غاية الاكتمال، وقد حلل
المؤلف هذه القصيدة تحليلاً عميقاً، ورصد كيف أنها تنمو من خلال الصور
الشعرية، وينمو موقف الشاعر عبر التشكيل الجمالي إلى غاية خلق الموازاة
الرمزية للموقف كله في النهاية، وعند تطرقه للبناء المتكرر المركزي، قدم
الباحث قصيدة «يا موت» كنموذج لهذا النوع من البناء، وقصيدة «أيها الحب»
كنموذج لبناء التضاد، و«فجاج الآلام» كنموذج للبناء السردي.
الشابي وجبران:
تتميز هذه الدراسة بكونها مبنية على المقارنة بين عملاقين من عماليق الأدب العربي المعاصر، فقد تناول الناقد الليبي خليفة محمد التليسي من خلال كتابه «هذا الشابي» على انفراد في بعض فصوله، كما تطرق في أحيان أخرى إلى شتى الوشائج بينه وبين جبران، ففي البدء تحدث عن الميدان الأدبي، والمدارس الأدبية بين القديم والجديد، وتعرض لشخصية أبي القاسم، وذلك من خلال شعره «فمظهر التفوق في كل شاعر عظيم، هو أن تستطيع التعرف على شخصيته من شعره، وأن تخرج من قراءتك له بنموذج تحسّ فيه خفقة الحياة، وفي هذا الإطار، يقف الشابي شاعراً، متفرداً بخصائصه الذاتية، معروفاً بسمـاته الخاصة، واضحاً بعواطفه وأفكاره»(12)، ويرى المؤلف أن قصيدة «فكرة الفنان» تقدم شاعرنا خير تقديم، وهي تكشف عن جوهر شخصيته بكل صدق وأمانة، وحرارة، فهي تغنينا عن العديد من التعريفات التي وُضعت لهذه الشخصية الفذة، وهي المفتاح الذي يدار للنفاذ إلى أعماقها، وما نخرج به من خلال ما أشار إليه المؤلف أنه يرصد شخصية الشابي معتمداً كل الاعتماد على إبداعه بعيداً عن شتى الترجمات التي وُضعت له، وهو بذلك يُمارس الإسقاط، أو كأن الشاعر يعتمد الإسقاط كمبدأ أساس في شعره، ومن خلال قصيدة «فكرة الفنان» صور الشاعر «إيمانه بالعاطفة، وما تبعثه في النفس من الآمال العذاب، وأثر الفن الصادر عن العاطفة في تجميل الحياة التي لولاها لكانت كالبيت المتهدِّم المهجور. ويستخفّ بالعقل، فيراه صغيراً، مغروراً، عاجزاً عن اكتشاف أسرار الوجود، تلك الأسرار التي لا يمكن اكتشافها إلا عن طريق العاطفة، التي تتجاوب مع الكون، وتندمج فيه اندماجاً صوفياً، مستشعرة لذة النشوة الروحية المقدسة. إن العاطفة عند الشابي، هي التي تهدي الإنسان سبيل الإحساس بالجمال، والتشوق إلى سحر الوجود، وما فيه من رائع فتّان، تفنى النفس الشاعرة في جماله الأخّاذ»(13).
لقد أطلّ الشابي، وتفتحت عبقريته في مرحلة كانت الرومانسية هي الشائعة في كتابات الكتاب آنذاك، وذلك هروباً من الواقع المرير، وتحقيقاً لأحلامها وآمالها، وكان كل شيء في الجو الأدبي يساعد على التمكين لهذا المزاج، فالجو كان جواً ملغماً، حيث إن الاستعمار أتلف كل معاني الحرية، وأهدر الكرامات الشخصية بسنه لمجموعة من القوانين الجائرة المتعسفة، وقد كانت الضغوطات مزدوجة، فإضافة إلى الاستعمار كانت هناك ألوان أخرى من الاضطهاد، وهو ذلك الحجر الفكري الذي مارسه المتزمتون بفرض القيود على كل فكر متحرر«والشابي قد عرف ضروباً من هذا البلاء الذي ألقى في نفسه هذه الكآبة العميقة الجارحة، وبثّ في أنغامه هذا الحزن المرير. وشاهد صوراً من هذا الجور الذي يلمّ بأبناء الحياة الذين يحملون شعلة الرأي الحر. ولم تكن عبثاً هذه القطعة، التي يصوّر فيها ما يتعرض إليه المصلح الذي يتصدّى لحمل رسالة الإصلاح:
لست أبكي لعسف ليل طويل
أو لرَبع غدا العفاء مراحه
إنما عبرتي لخطب ثقيل
قد عرانا ولم نجد من أزاحه
كلما قام في البلاد خطيب
موقظ شعبه يريد صلاحه
أخمدوا صوته الإلهي بالعسف
أماتوا صداحه ونواحه
ألبسوا روحه قميص اضطهاد
فاتك شائك يردُّ جماحه!
وتوخوا طرائق العسف والإرهاق
معه، وما توخّوا سماحه
هكذا المصلحون في كل صوب
رشقات الردى إليهم مُتاحه»(14)
تتميز هذه الدراسة بكونها مبنية على المقارنة بين عملاقين من عماليق الأدب العربي المعاصر، فقد تناول الناقد الليبي خليفة محمد التليسي من خلال كتابه «هذا الشابي» على انفراد في بعض فصوله، كما تطرق في أحيان أخرى إلى شتى الوشائج بينه وبين جبران، ففي البدء تحدث عن الميدان الأدبي، والمدارس الأدبية بين القديم والجديد، وتعرض لشخصية أبي القاسم، وذلك من خلال شعره «فمظهر التفوق في كل شاعر عظيم، هو أن تستطيع التعرف على شخصيته من شعره، وأن تخرج من قراءتك له بنموذج تحسّ فيه خفقة الحياة، وفي هذا الإطار، يقف الشابي شاعراً، متفرداً بخصائصه الذاتية، معروفاً بسمـاته الخاصة، واضحاً بعواطفه وأفكاره»(12)، ويرى المؤلف أن قصيدة «فكرة الفنان» تقدم شاعرنا خير تقديم، وهي تكشف عن جوهر شخصيته بكل صدق وأمانة، وحرارة، فهي تغنينا عن العديد من التعريفات التي وُضعت لهذه الشخصية الفذة، وهي المفتاح الذي يدار للنفاذ إلى أعماقها، وما نخرج به من خلال ما أشار إليه المؤلف أنه يرصد شخصية الشابي معتمداً كل الاعتماد على إبداعه بعيداً عن شتى الترجمات التي وُضعت له، وهو بذلك يُمارس الإسقاط، أو كأن الشاعر يعتمد الإسقاط كمبدأ أساس في شعره، ومن خلال قصيدة «فكرة الفنان» صور الشاعر «إيمانه بالعاطفة، وما تبعثه في النفس من الآمال العذاب، وأثر الفن الصادر عن العاطفة في تجميل الحياة التي لولاها لكانت كالبيت المتهدِّم المهجور. ويستخفّ بالعقل، فيراه صغيراً، مغروراً، عاجزاً عن اكتشاف أسرار الوجود، تلك الأسرار التي لا يمكن اكتشافها إلا عن طريق العاطفة، التي تتجاوب مع الكون، وتندمج فيه اندماجاً صوفياً، مستشعرة لذة النشوة الروحية المقدسة. إن العاطفة عند الشابي، هي التي تهدي الإنسان سبيل الإحساس بالجمال، والتشوق إلى سحر الوجود، وما فيه من رائع فتّان، تفنى النفس الشاعرة في جماله الأخّاذ»(13).
لقد أطلّ الشابي، وتفتحت عبقريته في مرحلة كانت الرومانسية هي الشائعة في كتابات الكتاب آنذاك، وذلك هروباً من الواقع المرير، وتحقيقاً لأحلامها وآمالها، وكان كل شيء في الجو الأدبي يساعد على التمكين لهذا المزاج، فالجو كان جواً ملغماً، حيث إن الاستعمار أتلف كل معاني الحرية، وأهدر الكرامات الشخصية بسنه لمجموعة من القوانين الجائرة المتعسفة، وقد كانت الضغوطات مزدوجة، فإضافة إلى الاستعمار كانت هناك ألوان أخرى من الاضطهاد، وهو ذلك الحجر الفكري الذي مارسه المتزمتون بفرض القيود على كل فكر متحرر«والشابي قد عرف ضروباً من هذا البلاء الذي ألقى في نفسه هذه الكآبة العميقة الجارحة، وبثّ في أنغامه هذا الحزن المرير. وشاهد صوراً من هذا الجور الذي يلمّ بأبناء الحياة الذين يحملون شعلة الرأي الحر. ولم تكن عبثاً هذه القطعة، التي يصوّر فيها ما يتعرض إليه المصلح الذي يتصدّى لحمل رسالة الإصلاح:
لست أبكي لعسف ليل طويل
أو لرَبع غدا العفاء مراحه
إنما عبرتي لخطب ثقيل
قد عرانا ولم نجد من أزاحه
كلما قام في البلاد خطيب
موقظ شعبه يريد صلاحه
أخمدوا صوته الإلهي بالعسف
أماتوا صداحه ونواحه
ألبسوا روحه قميص اضطهاد
فاتك شائك يردُّ جماحه!
وتوخوا طرائق العسف والإرهاق
معه، وما توخّوا سماحه
هكذا المصلحون في كل صوب
رشقات الردى إليهم مُتاحه»(14)
إن العاطفة هي التي غلبت على شاعرنا إلى
أن أصابته بدائه القاتل الذي طواه وأودى به، وهو في نضارة الشباب، ولقد
تجسدت في شخصيته جميع تجليات الرومانسية، من خروج على مألوف العصور
التليدة، إلى ثورة على التقاليد البالية الاجتماعية والأدبية، ونقمة على
الوضعية الفاسدة، وامتياز بذاتية خاصة، وعكوف عليها، وقد عبّر عن ذلك أصدق
تعبير، وصور لنا ما يجري في داخله من صراع عاطفي عنيف.
وفي تجليته لعلاقة الأثر بين الشابي
وجبران، فإن الأستاذ التليسي يرى بأن أغلب الدراسات اجتمعت على الأثر
الكبير لجبران في الشابي، بيد أنها تصمت عند تحديد هذا التأثير، وهذا ما
جعل الباحث يحاول رصد مدى التأثير بينهما، ويحدد الصلة بين الشابي وجبران،
كما أنه يهدف إلى تصويب بعض الأوهام التي علقت ببعض الأذهان، فالدراسة
العميقة توضح أن هناك أثراً عميقاً بينهما، وتبرز بأن الشابي كان واحداً من
أخلص تلاميذ جبران وأنبغهم، فقد كان أدب جبران ثورة عاصفة، ودعوة حارة إلى
النهوض، وضرورة مماشاة الزمن، وهو يبدو كارهاً لأبناء قومه، لأنهم يكرهون
المجد والعظمة، ويحتقرهم لأنهم يحتقرون أنفسهم، وهذا ما برز عند الشابي
الذي ثار على شعبه وكان يرى بأنه شعب غير جدير بالحياة:
لست يا شيخ للحياة بأهل
أنت داء يبيدها وتبيده
لست يا شيخ للحياة بأهل
أنت داء يبيدها وتبيده
وأما التمرد فهو صفة بارزة في فلسفة جبران
الهادفة إلى إعادة الكرامة للإنسان، والعمل على تحريره من القيود، وقد سلط
نيران غضبه على رجال الدين، وهو ما تجلى أيضاً في شعر الشابي:
ملئ الدهر بالخداع، فكم
ضُلل الناسُ من إمام وقسِّ
ملئ الدهر بالخداع، فكم
ضُلل الناسُ من إمام وقسِّ
وبالنسبة إلى الخصائص الفنية فالتشابه
واضح «في اتفاق الأديبين على تمجيد الفن، والسموّ به عن الأغراض التافهة.
ولعل جبران قد ألقى في نفس الشابي مثل هذا التقدير، فقد كان ثائراً على
الهبوط بالشعر إلى الاهتمام بالتوافه الاجتماعية، وهي ثورة قام عليها صرح
الأدب المهجري، الذي اتخذ من الفن رسالة بعث وإحياء، فصوَّب نيرانه إلى
التقاليد الأدبية التي تعنى بالبهرجة اللفظية، والزخرف البديعي، وآمن بأن
نصيب الشاعر من النجاح، يحدده رصيده الفني، وملكته الشاعرة. وهذه وحدها
خالقة اللغة، حتى ليرى جبران، أن قوة الابتكار، إنما تكمن في لسان الشعراء،
المخلصين لأنفسهم وفنهم.
امتاز أدب جبران، بقيامه على الصدق
الشعوري، والانفعال الحاد، والاعتماد على بساطة الأداء وقوة الإيحاء، وهو
ذو أسلوب تصويري، ينتزع صوره ومشاهده من الطبيعة. وهذه مزية تفرَّد بها
جبران في أدبنا المعاصر، وقد أسعفته في ذلك ملكته المصورة القادرة على خلق
الصور الرائعة. وإنا لنلمح أثره واضحاً في الشابي الذي زاد من مطالعته،
وعكف على كتبه... يقول جبران:
من يهوى النور فالنور يهواه
ويقول الشابي:
ومن ناجت النور أحلامه
يباركه النور أنى ظهر
ومن ناجت النور أحلامه
يباركه النور أنى ظهر
ويقول جبران في غربته بين بني قومه: ثم
ألتقي برهط من الشيوخ، فيؤمنون نحوي بأصابع وثيقة قائلين: هو مجنون أضاع
صوابه في مسارح الجن والغيلان.
وذلك ما قاله سدنة الماضي في الشابي، وهي عبارة جبرانية نظمها في نسق رائع:
قد أضاع الرشاد في ملعب الجن فيا بؤسه أصيب بمسِّ»(15).
قد أضاع الرشاد في ملعب الجن فيا بؤسه أصيب بمسِّ»(15).
ومن النماذج التي يبرز فيها أثر جبران
قصيدة «النبي المجهول»، فهي تحمل أفكاراً متمردة، ذات صلة بفكر وأدب جبران،
وقد خلص الباحث في الأخير إلى القول «إن الشابي قد تأثر بالأدب المهجري،
وتأثر بجبران بنوع خاص... والمشابهة بينه وبين جبران أعظم من أن توحيها
المصادفة أو وقوع الحافر على الحافر، ولكنها المشابهة التي تنتجها التلمذة،
تلمذة من عكف على دراسة جبران وأدبه... فإذا أريد فهم الشابي والمدارس
الأدبية التي أثرت فيه وعملت في أدبه، فإنه يجب أن نلتفت إلى جبران بصفة
خاصة. ذلك لأن النقمة على التخلف ومحاربة الكهانة، وتقديس الحرية، واحترام
الشخصية الإنسانية، والإيمان بالطموح، وعبادة الفن، والركون إلى الطبيعة،
وبساطة الأداء في التعبير، والصدق في الشعور، والعبارة التصويرية... كلها
أشياء تتلمذ فيها الشابي على جبران»(16).
ومن أبرز المواضيع التي خاض فيها المؤلف
في كتابه: «الوطنية والطبيعة، والحياة، والمرأة، والطفولة، في شعر الشابي»،
حيث نلفيه ينتقي قصائد ومقاطع من شعره ويبرز من خلالها هذه المواضيع، ومن
الأسئلة الهامة التي طرحها المؤلف، إلى أي مدى كان الشابي تلميذاً في مدرسة
حافظ؟ وهو يهدف من خلال سؤاله هذا إلى الرد على مزاعم من يعتبرون أن
الشابي هو تلميذ من تلاميذ حافظ إبراهيم، فهو يشكك في ذلك ويرى بأن الشابي
لم يكن تلميذاً لحافظ، ومن يتأمل في الخصائص الفنية لكلا الشاعرين من صياغة
ومضمون وفلسفة في الحياة يرى بأنهما كانا على طرفي النقيض، فشخصية
الشاعرين تختلف كل الاختلاف، ولا يتفقان مطلقاً، فمذهب حافظ تجديدي لا
يلتقي مع مذهب الشابي، فالشابي كان رومانسياً عميقاً، وصاحب خيال فسيح،
وعاطفته كانت تتميز بالتنوع، وألم الشابي كما عرف هو الذي أدى به إلى أن
يحس بالحياة إحساساً بلغ من التفوق حداً بعيداً، أما حافظ فليس بوسعه أن
يطيق العكوف على الألم واجترار الأحزان، ولا أن يتأمل ملياً في آلام
الحياة، ومآسيها، وترتب على كل ذلك انعدام الشعور المتصوف الذي يعج به شعر
الشابي، كما كان الشابي ذا خيال واسع بعيد الآفاق، وأما حافظ فإنه كما وصفه
أحمد أمين قريب الخيال، قلّ حظه من الابتكار، والتصوير، وقد كان الشابي
شغوفاً بالطبيعة، عاشقاً لما يحيط بها من سحر وجمال، وأما حافظ فهو قليل
الشعور بالطبيعة، وقد وصف من قبل أحمد أمين بأن عاطفته ينقصها التنوع، ولا
يوجد الكثير من شعره في جمال الطبيعة، وفي ختام المناقشة خلص المؤلف إلى أن
الشابي لا يلتقي مع حافظ، بل إنه يلتقي في تجديده بالمهجريين، ومطران،
والمدرسة النقدية التي أنشأها كل من العقاد، والمازني، وشكري.
ويتطرق المؤلف في كتابه لتجربة الشابي
الشعرية والعوامل الفعالة التي اشتركت في تكوينها، فلقد كانت «تجربة الشابي
الشعرية، تجربة غنية وسخية. وقد ترك لنا الشابي الكثير من الآثار الأدبية
النثرية، ما يكون في مجموعه تحديداً كاملاً متناسقاً لتجربته الشعرية،
ورسماً واضحاً لمعالمها... وكل تحديد للتجربة الشعرية لدى الشاعر، لابد أن
يأخذ في اعتباره وتقديره مقومات الشخصية الفنية للشاعر، والاتجاهات الفكرية
السائدة في عصره، وموقفه منها رفضاً أو قبولاً، وكذلك موقفه من التراث
القديم، وتحديده لمعنى الشعر كما يراه ويمارسه ويدعو إليه»(17)، فقد كان
الشابي في مفهومه للشعر رافضاً للتحديد التقليدي الشائع، بأن الشعر هو ذلك
الكلام الموزون المقفى، ونجده يضع تحديداً يستمد أصوله من تصوير الحياة،
والتعبير عنها في مظاهرها المختلفة، فيفترض أن يكون الشاعر إنساناً ممتازاً
بشعوره، وممتازاً بتعبيره عن هذا الشعور، وصورة الشاعر لدى الشابي «هي
صورة ذلك الفنان الذي يكون في روحه شيء من طبع النبوة، التي تبصر ما لا
يبصره الناس، وتشعر بأسمى ما يشعرون، وعنصر من معنى الألوهية التي تخلق
المادة الصماء حياة ساحرة وفلكاً دائراً... ذلك الخلاق الذي يبعث في آثاره
فلذة من روحه ونسمة من حياته، فإذا هي ناطقة تعبر في قوة وإبداع، عما في
هذا الوجود من سحر وجمال، ويتغنى بما يزخر به قلبه البشري من عطف وبغض ويأس
وحنين ولذة وألم وغايات ومُثل... ذلك الجبار الذي يرتفع بقلبه فوق البشر،
ليتحدث بلغة السماء عن نشوة الروح وحيرة الفكر التائهة بين نواميس العالم
وبهاء الوجود.
هذا هو النموذج الذي يضعه الشابي، مقابلاً للنموذج الذي وضعته الأجيال القديمة وحددت وظيفته في أن ينظم الكلام الموزون المقفى»(18).
إن الشابي يتجاوب كثيراً مع الدعوات التي
حملتها المدرسة الجديدة، تلك المدرسة التي نددت كثيراً بتسخير الشعر للرثاء
والمدح وللتهاني، وقد كان رافضاً لأدب هذه الفئة، وذلك على الرغم من
إدراكه لما تهيأ لها من صلة بالقديم، والتي تجلت في صياغتها وتعابيرها
الجميلة، كما كان في الآن ذاته رافضاً للتجديد السطحي المبتذل الذي يقتصر
على التفاعل المرتجل الذي يبتعد على الاطلاع الواسع والشعور العميق.
أما عن موقفه من التراث فيرى الباحث بأنه
قد كان على صلة بتراثنا القديم الذي أسهم في تكوينه الوجداني والتعبيري،
ويعدّ عاملاً أساساً ورافداً غزيراً لتجربته الشعرية، وقد تأثر الشاعر
بجملة من الأدباء والمفكرين، ومن أبرز الشخصيات التي أثرت فيه شخصية عباس
محمود العقاد، فقد اطلع الشابي على مقالاته وكتبه العديدة، وفي مقدمتها
كتاب «ساعات بين الكتب» الذي حوى آراءً متصلة بتصحيح مفهوم الشعر، وتضمن
فصولاً عن الشعر في مصر، حددت الاتجاهات النقدية.
كيف نعتبر الشابي مجدداً:
تتميز هذه الدراسة عن سواها من الدراسات السالفة، بكونها تدرس شعر الشابي من جانب موسيقي، وهي دراسة عروضية لديوان الشابي، وأصل هذا العمل بحث ُأنجز لاجتياز شهادة الكفاءة للبحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة التونسية، قدّمه الشاعر والناقد التونسي الطاهر الهمامي، وهو يهدف من خلال دراسته هذه إلى الدفاع عن قضية الشعر الذي ساد آنذاك في مرحلة السبعينيات، ذلك النمط الذي وُصف بأنه «غير العمودي وغير الحر»، كما يرمي من خلال دراسته إلى إخراج الشابي من منطقة الأساطير، ومنطقها، ومحبة في السعي لتأييد قيمته أو تفنيدها بالعلم، ومن الملاحظات الهامة التي أشار إليها «أن هذا الشاعر تماماً كغيره من الشعراء، يظلم بقدر ما يمجد، تمجيداً مصدره في الغالب عاطفة وذوق وانفعال عابر وحماس، أو ينتقد قاسياً جائراً. فكلا الموقفين، وخاصة أولهما، قد عملا على تنفير الأجيال اللاحقة من الشابي وشعره»(19)، إن ما يتوخاه الأستاذ الطاهر الهمامي من خلال دراسته هو الابتعاد عن الأحكام العاطفية، ودراسة شعر الشابي دراسة موضوعية بغية اكتشاف الوجه الصريح لشاعرنا من خلال فنه الشعري، ويسعى إلى تبيين الوعي الفني عنده، وتقدير الفرق بين التصريح والإنجاز، وذلك من خلال آثاره النثرية والشعرية، ويركز على وصف ديوانه وصفاً عروضياً، ودراسة البحور والقوافي، وما تثيره من قضايا، وما يطرأ عليها من تحولات، كما يهتم بنوع ما يصل بين العروض واللغة والمعنى والصوت من علائق ووشائج.
تتميز هذه الدراسة عن سواها من الدراسات السالفة، بكونها تدرس شعر الشابي من جانب موسيقي، وهي دراسة عروضية لديوان الشابي، وأصل هذا العمل بحث ُأنجز لاجتياز شهادة الكفاءة للبحث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة التونسية، قدّمه الشاعر والناقد التونسي الطاهر الهمامي، وهو يهدف من خلال دراسته هذه إلى الدفاع عن قضية الشعر الذي ساد آنذاك في مرحلة السبعينيات، ذلك النمط الذي وُصف بأنه «غير العمودي وغير الحر»، كما يرمي من خلال دراسته إلى إخراج الشابي من منطقة الأساطير، ومنطقها، ومحبة في السعي لتأييد قيمته أو تفنيدها بالعلم، ومن الملاحظات الهامة التي أشار إليها «أن هذا الشاعر تماماً كغيره من الشعراء، يظلم بقدر ما يمجد، تمجيداً مصدره في الغالب عاطفة وذوق وانفعال عابر وحماس، أو ينتقد قاسياً جائراً. فكلا الموقفين، وخاصة أولهما، قد عملا على تنفير الأجيال اللاحقة من الشابي وشعره»(19)، إن ما يتوخاه الأستاذ الطاهر الهمامي من خلال دراسته هو الابتعاد عن الأحكام العاطفية، ودراسة شعر الشابي دراسة موضوعية بغية اكتشاف الوجه الصريح لشاعرنا من خلال فنه الشعري، ويسعى إلى تبيين الوعي الفني عنده، وتقدير الفرق بين التصريح والإنجاز، وذلك من خلال آثاره النثرية والشعرية، ويركز على وصف ديوانه وصفاً عروضياً، ودراسة البحور والقوافي، وما تثيره من قضايا، وما يطرأ عليها من تحولات، كما يهتم بنوع ما يصل بين العروض واللغة والمعنى والصوت من علائق ووشائج.
في الباب الأول يرصد الباحث مدى وعي
الشابي بالمسألة الفنية في شعره ونثره، ومن خلال ذلك يوضح العلاقة بين
التصريح والتطبيق، فمن خلال نثره تطرق الباحث إلى قضية الصراع بين الجديد
والقديم من خلال رسائله، وقد تبدى له أنه عازم على التجديد والتغيير بكل
وضوح وصراحة، بيد أنه يبقى عاماً في مضامينه، وغامضاً في مقصده، حيث تحيطه
كلمات كبيرة كالحياة، والثورة، والقديم، ويبدو متحمساً ومندفعاً اندفاع
الغرير، كما لاحظ المؤلف أن الشابي يقول أقوالاً كثيرة، ولكنه يعبر عن معنى
واحد، وهذا ما يجعل المرء يشكك في مدى الفعل، كما أنه يتوعد أحياناً إلى
حد الوصول إلى الشتيمة، أما ظاهرة الأشعار المنثورة والموسيقى فيها، فقد
برز ذلك من خلال حديث الشاعر عن هذا النمط من الكتابة الأدبية، وفي ممارسته
لها، وبالمقارنة بين قصائده المنثورة، وبين بعض الموزونات في شعره ألفى
الباحث شبهاً قوياً بين النمطين، ولاحظ أن الشاعر في النمط الأول يتنفس
بأكثر حرية، كما يتصرف في مجال من الأنغام والعبارات والمعاني والصور أوسع
وأرحب، وأول مظهر يرصده المؤلف هو التكرار فمن يتأمل قصيدة «النفس التائهة»
يلاحظ توفر التكرار «كتكرار التركيب النحوي واللغوي الواحد للفصل بين
أقسام النص فصلاً يعوض إعادة البيت أو البيتين عند العرب قديماً وحديثاً
وهو ما يقابل الترجعية refrain في الشعر الفرنسي، ويراد به تقوية النغم،
ونجد له أمثلة كثيرة في القرآن.
وفي النفس التائهة يبدأ الشاعر بـ: يا إله
الحياة والموت ليعود إليها ثانية وثالثة ورابعة... حتى ينتهي النص فيغلقه
بنفس العبارة. والقصيدة كلها من بدئها إلى منتهاها شبكة من العبارات
المتكررة في تركيبها الثابت أو متغيّرة، ولكم ردد صاحبها:
دعوت رفيقي... وكثيراً ما دعوته
أو: إنني ضائع مستوحد غريب
دعوت رفيقي... وكثيراً ما دعوته
أو: إنني ضائع مستوحد غريب
وهو بالإضافة إلى الجملة. يكرّر الحرف،
نداء كان أو أداة استفهام أو تعجباً أو تأكيداً: يا، هل، إيه، إنني،
والكلمة أيضاً: دعوت. رفيقي. حياة، وتكاد القصيدة في النهاية تكون نسيجاً
من: الحياة. الموت. دعوته. ضائع، يشده الاستفهام والتعجب، وهذا المبدأ مبدأ
تردد الصور الصوتية، من أخص خصائص الشعر، وهو مشترك بين مختلف تقنياته،
ويضاف إلى التكرار تتابع الأصوات المتماثلة:
وذلك كأن يتجاوب المقطع الواحد مع نفسه على فترات متقاربة: دعوته بأسمائه المستعذبة وكناه المستحبة.
وذلك كأن يتجاوب المقطع الواحد مع نفسه على فترات متقاربة: دعوته بأسمائه المستعذبة وكناه المستحبة.
أو كأن تطغى الحركات الطويلة وهو ما
نلاحظه من أول عبارة: يا إله الحياة والموت، حيث تتجمع ثلاث فتحات طويلة
مساعدة على تجسيم النداء، أو كأن يتتابع نسق معين من تنظيم المقاطع، فأغلب
الجمل عبارة عن أنصاف أو أثلاث أو أرباع أبيات وإن على بحور مختلفة، ومثال
ذلك:
يا إله الحياة والموت
0 – 00 – 0 – 0
فاعلاتن مفاعلن فاع
يا إله الحياة والموت
0 – 00 – 0 – 0
فاعلاتن مفاعلن فاع
فهذه الجملة واردة على جزء من الخفيف، ويتمثل المظهر الأخير في:
كتابة أغلب فقرات النص كتابة شعرية، تعتمد الرجوع إلى السطر قبل انتهائه، على أطوال مختلفة، وهي الطريقة التي سيعتمدها الشعر الحر مثلاً فيما بعد»(20)، وما لاحظه المؤلف من خلال تناوله لممارسة الشابي لهذا الشكل الشعري أنه مارسه بشيء من الوعي بتوفر الموسيقى الشعرية ومشابهة قوية في بعض الأحيان بالموزونات، ومن خلال أربع كتابات نظرية متفرقة تأكد للمؤلف موقف الشابي من المسألة الموسيقية في الشعر، فهو عندما يثور على المقلدين يؤكد بذلك إيمانه بالتفرد والخصوصية في الأسلوب والروح، وأما الصياغة العروضية الخارجية فهي ميراث قار وثابت، وبمثابة حلي ساحر جميل، ويتبين أن الشاعر كان دائم الربط بين الأدب وصاحبه وبيئته وعصره، وقضية القديم والجديد هي محور تفكيره، بيد أن موقفه في الأخير يميل إلى الإصلاح منه إلى الثورة، فهو يقف عند فروع المسائل بدل أن يغوص في جذورها، أما من خلال شعره فقد وجد المؤلف أن هناك ست قصائد تضمنت الإبانة، سواء عن قصد أو عفواً، وبدرجات متفاوتة عن منزع الشاعر في الكتابة الشعرية، وأقرب هذه القصائد قصيدة «شعري» وهي قصيدة كتبها في سن مبكرة، ووضع من خلالها دستوراً فنياً وفكرياً يسير عليه، فقد حدد فيها مفهومه للشعر ووظيفته وفضله، وعرض كل ذلك بمفاهيم انحطاطية كانت سائدة إبان زمانه، ولكن الموقف يبقى مضمونياً فيتناول محتوى الشعر ولا يأبه بشكله، وجميع نصوصه الأخرى تشترك في أنها صامتة عن الناحية الفنية، وأما ظاهرة طغيان المصطلح الموسيقي فيتعلق بعضها بمجرد التصويت والبعض الآخر بالغناء والإنشاد ومصادرهما، وتردد بين الحس والسكون، وقد أوجز المؤلف ذلك في جدول كانت نتائجه على الشكل الآتي:
– التصويت: النجوى، شكوى اليتيم، صوت تائه، حديث المقبرة، صوت من السماء، شكوى ضائعة، زئير العاصفة، صيحة الحب، في سكون الليل.
كتابة أغلب فقرات النص كتابة شعرية، تعتمد الرجوع إلى السطر قبل انتهائه، على أطوال مختلفة، وهي الطريقة التي سيعتمدها الشعر الحر مثلاً فيما بعد»(20)، وما لاحظه المؤلف من خلال تناوله لممارسة الشابي لهذا الشكل الشعري أنه مارسه بشيء من الوعي بتوفر الموسيقى الشعرية ومشابهة قوية في بعض الأحيان بالموزونات، ومن خلال أربع كتابات نظرية متفرقة تأكد للمؤلف موقف الشابي من المسألة الموسيقية في الشعر، فهو عندما يثور على المقلدين يؤكد بذلك إيمانه بالتفرد والخصوصية في الأسلوب والروح، وأما الصياغة العروضية الخارجية فهي ميراث قار وثابت، وبمثابة حلي ساحر جميل، ويتبين أن الشاعر كان دائم الربط بين الأدب وصاحبه وبيئته وعصره، وقضية القديم والجديد هي محور تفكيره، بيد أن موقفه في الأخير يميل إلى الإصلاح منه إلى الثورة، فهو يقف عند فروع المسائل بدل أن يغوص في جذورها، أما من خلال شعره فقد وجد المؤلف أن هناك ست قصائد تضمنت الإبانة، سواء عن قصد أو عفواً، وبدرجات متفاوتة عن منزع الشاعر في الكتابة الشعرية، وأقرب هذه القصائد قصيدة «شعري» وهي قصيدة كتبها في سن مبكرة، ووضع من خلالها دستوراً فنياً وفكرياً يسير عليه، فقد حدد فيها مفهومه للشعر ووظيفته وفضله، وعرض كل ذلك بمفاهيم انحطاطية كانت سائدة إبان زمانه، ولكن الموقف يبقى مضمونياً فيتناول محتوى الشعر ولا يأبه بشكله، وجميع نصوصه الأخرى تشترك في أنها صامتة عن الناحية الفنية، وأما ظاهرة طغيان المصطلح الموسيقي فيتعلق بعضها بمجرد التصويت والبعض الآخر بالغناء والإنشاد ومصادرهما، وتردد بين الحس والسكون، وقد أوجز المؤلف ذلك في جدول كانت نتائجه على الشكل الآتي:
– التصويت: النجوى، شكوى اليتيم، صوت تائه، حديث المقبرة، صوت من السماء، شكوى ضائعة، زئير العاصفة، صيحة الحب، في سكون الليل.
– الغناء والإنشاد: أغاني الحياة، أنشودة
الرعد، أغنية الأحزان، أغنية الشاعر، نشيد الأسى، أغاني التائه، من أغاني
الرعاة، ألحاني السكرى، نشيد الجبار.
– مصادر الغناء: عصفور (مناجاة عصفور)، البلبل (إلى البلبل).
وفي بابه الثاني قدم الباحث وصفاً عروضياً
دقيقاً لديوان الشابي في جداول أبرز من خلالها: القصيدة، والصفحة،
والموضوع، والبحر والكلمة الأخيرة، وتاريخ الكتابة.
وفي دراسته للبحر والقافية توصل الباحث
إلى أن شعر الشابي في ديوانه يدور على بحور عشرة، هي بحسب مدى استعمالها:
الخفيف، والكامل، والرمل، والمتقارب، والبسيط، والطويل، والمجتث، والسريع،
والمتدارك، والمنسرح، وبالنسبة إلى البحور التامة فقد «كتب الشابي في
البحور التامة واحداً وثمانين نصاً على جملة مائة وتسعة وهو ما يقابل
تقريباً ثلاثة أرباع شعره. والملاحظ أنه كلما تقدمت به التجربة تصاعد معها
عدد التامة على حساب غيرها، فالمقارنة بين ما كتبه سنة 1926 مثلاً وبين سنة
1934 تؤدي إلى النتيجة التالية: في الأولى نجده كتب على ستة بحور نصفها
فحسب تام، وفي الثانية على ثمانية تامة كلها»(21).
وعندما درس الباحث القوافي عند أبي
القاسم، تجلى له أن قوافيه تتميز بظاهرة التكرر والتنوع، فمن بين مائة وتسع
قصيدة ومقطوعة، يتراوح عددها بين البيتين، والثمانية والتسعين بيتاً، ومن
ضمنها اثنتان وثلاثون قافية متنوعة مع إدراج الموشحات فيها، وقد توصل إلى
التوزيع الآتي: 10 ثنائيات، 5 ثلاثيات، 5 رباعيات، 1 خماسية، 3 سداسيات، 1
ثمانية، وخمس عشرية، وما لاحظه المؤلف هو أن الشاعر يمزج أحياناً فيما
بينها فتجد في القصيدة الواحدة، الثلاثية، والثنائية، والسداسية،
والرباعية، أما عن مدى تحكم القافية في حجم القصيدة فقد خلص إلى أن هناك
رابطاً مشتركاً بين المقطوعات ومواضيعها، وهو أنها تأملية حكمية، فلا تتفق
والمنزع الأصلي للشابي، فهي خطرات، خواطف، ولا تستدعي الكثير من الإطناب
والتفصيل، وقد أوجزت كالآتي: متاعب العظمة: بيتان، خلة الموت: 3 أبيات،
الحياة: 3 أبيات، سر مع الدهر: 3 أبيات، سر النهوض: 3 أبيات.
«فالشابي لم يخضع لحكم القافية في هذه
المقطوعات بقدر ما كان سيداً عليها يتصرف حسب مقتضيات الغرض والمضمون، فلم
يغره مثلاً أن مقطوعة «الحياة» أتت على قافية من أشيع القوافي عنده وآثرها
لديه، وبحر يتصدر بحوره جميعاً فيستطرد ويطيل مثلما يفعل مع أغراضه
المأثورة، في نفس الوزن، وأطول قصائده تجدها منوعة القافية، وقد يكون
الموضوع عزيزاً على الشاعر، تغطيه حالة شعورية طاغية فلا ينوع في قوافيه،
لغاية الإبقاء على اللحن الواحد المسترسل، وتعبيراً عن التأثر، وانشغالاً.
كان ذلك مثلاً مع «الجنة الضائعة» التي وردت قافيتها على ما يؤثر من
الصيّغ: فعول وفعيل، وهو ما يجعلنا نستخلص أن الشابي لم يذهب ضحية ما وقع
فيه كثير من شعراء العربية من حكمت شعرهم البحور والقوافي دون المضامين
والأحوال، لقد بقي سيد الموقف»(22)، وبالنسبة إلى القوافي وفعل الزمن، فقد
تطور الشابي في بحوره من البساطة إلى التركيب، وهو دليل على نضجه وحذقه،
كما تدرج من المجزوء إلى التام، وذلك علامة تراجع وتصلب فتدرج في قوافيه من
التنوع الذي تقلص مع مرور الزمن وعُوض بالتكرار.
انتقى الكاتب قصيدة الشابي البديعة «صلوات
في هيكل الحب»، وذلك لتجلية العلاقة بين القافية ومحيطها الصوتي، حيث فكك
بعض أبياتها، وقد خلص إلى أن علاقة القافية كعلاقة الصيغة القافوية بمحيطها
الصوتي، فهي وطيدة وقوية، كما أن هذا البحث جر المؤلف إلى التعمق في دراسة
ظاهرة القوافي الداخلية، وقد أوجز جميع نتائجه في جداول أبرزت كل ذلك بدقة
وتفصيل مفصل، وأبرز ما لوحظ في هذا المجال هو أن التقفية الداخلية قد تمت
على مستويين: مستوى الحروف، ومستوى الحركات، بيد أن حصة الأسد نالها
المستوى الثاني، كما لوحظ أن التقفية الداخلية تشيع عند الشابي، لا سيما في
قصائد البحر الخفيف، وهذا يعود إلى كثرة استعماله عند الشاعر وتمرسه به،
والتروض عليه.
وأما الموشح في شعر الشابي فقد ألفى الباحث سبعة أشكال أبدع عليها الشاعر، وقد مثل لكل شكل بقصيدة من ديوان الشاعر، وقد تبدى للمؤلف أن الأوزان والأغراض كانت متلائمة، وهذا ما تميز به الشابي عن سواه من شعراء جيله.
وأما الموشح في شعر الشابي فقد ألفى الباحث سبعة أشكال أبدع عليها الشاعر، وقد مثل لكل شكل بقصيدة من ديوان الشاعر، وقد تبدى للمؤلف أن الأوزان والأغراض كانت متلائمة، وهذا ما تميز به الشابي عن سواه من شعراء جيله.
وقد أفضت دراسة الأستاذ الطاهر الهمامي إلى جملة من النتائج الهامة دونها في كلمته الأخيرة، ومن أهم هذه النتائج:
1 – تقهقر الشابي في طريق تجربته الفنية
من المنثور والموشح والمجزوء والمنوع القافية وساكنها إلى القصيدة العربية
الكلاسيكية (العصماء) بمقوماتها الفنية العريقة، أصبح يكتبها في أخريات
أيامه.
2 – فتجديده وثورته إذاً كانا نتيجتي
مرحلة عمرية وفكرية من طبعها الحماس والاندفاع والمحاكاة، وعندما زالت زالت
معها آثارها ونتائجها.
3 – ولا يمكن أن نغفل إضافة عوامل التقهقر
الأخرى كالثقافة والوسط اللذين تغلبا عليه في النهاية، وقد بدأنا نلاحظ
ذلك ونحسه حتى خارج شعره ومصداقه ما أصبح من مواقفه وآرائه بعد «الخيال
الشعري عند العرب» وبعد ردود الفعل العنيفة التي اندلعت عنه.
4 – لكن تبنيه للصياغة العروضية القديمة
لم يمنع من غلبة طابعه وأسلوبه وروحه حسب عبارته على شعره، فلم يخضع فيه
إلى القانون الصلب الحادّ للوزن، ولم يقصر في شحن أصوات لغته بما تقصر دونه
الأوزان، وكانت له أحوال بحرية وقافوية وتفعيلية، وكان له علم ببحور دون
أخرى قد يجانب فيه أبناء عصره، وبقواف دون أخرى أيضاً.
5 – تبين لنا أن أساس الموسيقى في الشعر
ليس الوزن بقدر ما هو الصوت، فقد كان يمكن الاستغناء عن الخفيف في قصيدة
مثل «إلى الله» والاكتفاء بما تحمل من إيحاءات صوتية حللنا عناصرها
ومقوماتها لعلها كانت تزداد غنى وتنوعاً لو لم يضيق عليها الوزن »(23).
وفي ختام هذا البحث فإننا لا نزعم أننا
ألممنا بكافة الدراسات التي تناولت الشابي بالدراسة والبحث، فعملنا هذا هو
مزيج من الانتقاءات والاستنتاجات لجملة من الرؤى النقدية التي اهتمت بشعر
أبي القاسم لملمناها في عجالة بمناسبة ذكراه المئوية، بيد أننا نرجو أن
يكون عملنا هذا مفتاحاً ومنطلقاً لأبحاث ودراسات أخرى تكون أعمق وأرصن،
سواء أكان ذلك من كاتب هذه السطور، أو من لدن باحثين آخرين.
الـهوامـش:-
(1) مدحت سعد محمد الجبار: الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، الدار العربية للكتاب والمؤسسة الوطنية للكتاب، د، ط، 1984، من المقدمة.
(1) مدحت سعد محمد الجبار: الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، الدار العربية للكتاب والمؤسسة الوطنية للكتاب، د، ط، 1984، من المقدمة.
(2) مدحت سعد محمد الجبار: الصورة الشعرية عند أبي القاسم الشابي، ص35 – 36.
(3) المصدر نفسه، ص49 – 50.
(4) المصدر نفسه، ص60.
(5) المصدر نفسه، ص67 – 68.
(6) المصدر نفسه، ص140 – 141.
(7) المصدر نفسه، ص163.
(8) المصدر نفسه، ص165.
(9) المصدر نفسه، ص201.
(10) المصدر نفسه، ص210.
(11) المصدر نفسه، ص217.
(3) المصدر نفسه، ص49 – 50.
(4) المصدر نفسه، ص60.
(5) المصدر نفسه، ص67 – 68.
(6) المصدر نفسه، ص140 – 141.
(7) المصدر نفسه، ص163.
(8) المصدر نفسه، ص165.
(9) المصدر نفسه، ص201.
(10) المصدر نفسه، ص210.
(11) المصدر نفسه، ص217.
(12) خليفة محمد التليسي: الشابي وجبران، الدار العربية للكتاب، ط:05، 1984، ص34.
(13) خليفة محمد التليسي: الشابي وجبران، ص42 – 43.
(14) المصدر نفسه، ص41 – 42.
(15) المصدر نفسه، ص52 – 53 – 54.
(16) المصدر نفسه، ص58 – 59.
(17) المصدر نفسه، ص169.
(18) المصدر نفسه، ص173 – 174.
(13) خليفة محمد التليسي: الشابي وجبران، ص42 – 43.
(14) المصدر نفسه، ص41 – 42.
(15) المصدر نفسه، ص52 – 53 – 54.
(16) المصدر نفسه، ص58 – 59.
(17) المصدر نفسه، ص169.
(18) المصدر نفسه، ص173 – 174.
(19) الطاهر الهمامي: كيف نعتبر الشابي مجدداً، الدار التونسية للنشر، النشرة الثانية، 1983، ص10.
(20) الطاهر الهمامي: كيف نعتبر الشابي مجدداً، ص19 – 20 – 21.
(21) المصدر نفسه، ص63.
(22) المصدر نفسه، ص68 – 69.
(23) المصدر نفسه، ص146 – 147.
(21) المصدر نفسه، ص63.
(22) المصدر نفسه، ص68 – 69.
(23) المصدر نفسه، ص146 – 147.
لست ربوت