تحول الملعب الرياضي في المغرب، إلى فضاء جديد للاحتجاج…
احتجاج لجيل جديد، لم يعش الزخم السياسي الذي طبع عهد الحسن الثاني، لكنه أثبت منذ احتجاجات ”20 فبراير”، أنه يمتلك ثقافة سياسية رغم عدم تحزبه.
شباب الألتراس، هم جزء من هذا الشباب الذي يتوق للتعبير بحرية عن مكنوناته وهمومه.
تابعنا في الجزء الأول من هذا الملف، حكاية تطور ظاهرة الألتراس بالملاعب المغربية، وعلاقتها بالسياق المغربي والحركات الاحتجاجية التي عرفتها البلاد خلال السنوات الأخيرة.
في هذا الجزء الثاني والأخير، نواصل اقتفاء الحكاية، من خلال علاقتها بالمشهد السياسي والمطالب الاجتماعية.
أغاني الألتراس.. وليدة فترة مأزومة أم تمهيد لتسييس الملاعب؟
تذهب بعض الأبحاث التاريخية حول الألتراس، إلى اعتبارها وُلدت من رحم السياسية، فمهد الحركية في إيطاليا عرف تأسيس مجموعات مشجعة، لها توجهات سياسية معينة؛ فيما تصر الفصائل المشجعة المغربية على عدم تحزبها أو تبنيها لأي مواقف وإيديولوجيات سياسية. الألتراس تبرر هذا المبدأ بتمسكها باستقلاليتها المادية، وحرصها على تجنب أي اختراق.
هذا السياق التاريخي، يفسر نسبيا الحمولة السياسية والاجتماعية لبعض الأشكال التعبيرية للألتراس.
الألتراس تتبنى أيضا مواقف من قضايا وطنية. حيث تغنت جماهير الرجاء قبل أربع سنوات ونصف بمغربية الصحراء في لقائها مع وفاق سطيف الجزائري في سطيف، وهو ما تكرر أيضا، خلال الأيام القليلة الماضية، حين حل الرجاء البيضاوي ضيفا على فريق مولودية الجزائر: ”بالعقلية السياسية جينا نقولو الصحراء مغربية”.
بعض الأحزاب أبدعت في الهروب إلى الأمام، بإعلانها ضرورة الانتباه للأشكال الاحتجاجية الجديدة، متناسية مسؤوليتها في انتقال الفعل الاحتجاجي من فضاءاته -التقليدية على الأقل- إلى الملاعب.
أما الوينرز، الفصيل المساند للوداد الرياضي، فلا يتوانى عن الافتخار بكون فريقهم نادٍ للأمة، أسسه مقاومون مغاربة، وراكم رصيدا نضاليا في سنوات الاستعمار: ”فدائيين والمقاومين قالوها والخطابي صاوب ليهم أول قنبولة”.
… فجأة، استيقظ المغاربة السنة الماضية، على ضجة أغنية ”في بلادي ظلموني”، لألتراس ”إيغلز”، المساند لفريق الرجاء الرياضي.
الأغنية صدرت قبل أشهر من ذلك من طرف الفصيل، غير أنها لم تلق هذه الشهرة سوى أشهرا بعد ذلك، بفعل تداولها على نطاق واسع على مواقع التواصل الاجتماعي.
تناسلت بعد ذلك مجموعة من الأغاني بنفس الحمولة، لجماهير النادي القنيطري واتحاد طنجة والوداد الرياضي.
الفرضية الأولى التي تمخضت عن عشرات المقالات، هو احتمال أن تكون هذه الأغاني، تمهيدا لتسييس الملاعب المغربية.
هل كان الأمر مجرد هرطقة ومحاولة للركوب على احتجاجات الجماهير… أم نظرة مستقبلية؟
عموما، هناك العديد من الأبحاث الميدانية الجدية، حول تسييس الملاعب الرياضية في مناطق أخرى من العالم، نذكر منها… بحث أكرم خميس حول مجزرة بوسعيد، في كتابه ”ثورة جيل ألتراس”، حيث خلص إلى أن هذه الأخيرة، كانت انتقاما من مشاركة “ألتراس أهلاوي”، الفصيل المساند للنادي الأهلي، في الثورة المصرية.
هناك بحث ميداني آخر مهم، لـ “جيرارد زيريد”، حول ارتباط نادي العهد اللبناني بحزب الله اللبناني، حيث كشف أن الطائفية في لبنان، انتقلت إلى الملاعب. فرغم انفصال النادي عن الحزب، ظل أغلب المسيرين واللاعبين متشبعين بأفكاره.
أما في المغرب، فإن منصف اليازغي، الباحث في السياسة الرياضية، يذهب إلى أن الدولة هي التي بادرت بتسييس الملعب، عندما طلبت من الفصائل إنجاز تيفو برسم إحدى المباريات التصفوية للمنتخب المغربي. وعن موقفها من تسييس الملاعب، نأخذ مثال “سييمبري بالوما”، الفصيل المساند لفريق المغرب التطواني، حيث أكد في ظهور تلفويوني له، أنه رفض دعوة للمشاركة السياسية. هذا الفصيل نفسه، نقل الاحتجاجات على موت شابة برصاص البحرية المغربية الملكية إلى الملعب. الاحتجاجات وصلت لدرجة المطالبة بإسقاط الجنسية المغربية.
الفصائل تصر إذن على نفي أي علاقة لها بالسياسة. لكنها، في المقابل، تتبنى أشكالا تعبيرية غنية بالحمولة السياسية.
نحن أمام مفارقة…
هل خلقت الألتراس فضاء جديدا للتعبير دون نية مبيتة لتسيسس الملاعب وتبني خطاب بحمولات معينة؟
من المقاطعة إلى أغاني الألتراس… فضاءات جديدة للفعل الاحتجاجي.
يقول أوسكار وايلد: ”أعطني قناعا وسأقول الحقيقة”.
يتخفى ويذوب عناصر الألتراس في مجموعاتهم، لتنبعث هذه القوة الهادرة، التي تبوح بحقيقة همومها وهواجسها. قد يكون فعلا احتجاجيا لا شعوريا لحظيا، لكنه يدعو لإصغاء الجميع.
ألا يشكل الاحتجاج في الملاعب، تكريسا لثقافة الكسل وانهزامية المواطن، بفعل العزوف عن الأحزاب والجمعيات، والاكتفاء باحتجاج لحظي قد يكون مجرد نتيجة لأسباب نفسية وسوسيولوجية تحدثنا عنها سلفا؟
بعض الأحزاب أبدعت في الهروب إلى الأمام، بإعلانها ضرورة الانتباه للأشكال الاحتجاجية الجديدة، متناسية مسؤوليتها في انتقال الفعل الاحتجاجي من فضاءاته -التقليدية على الأقل- إلى الملاعب.
أثبتت حملة المقاطعة الأخيرة، أن المواطنين يبحثون عن أشكال احتجاجية جديدة. بل أكثر من ذلك، نزعم أن المواطن ينحو نحو فضاءات جديدة للاحتجاج… فبغض النظر عن مآل الحملة، انتشارها في مواقع التواصل الاجتماعي جعل لها عمرا مديدا. الأمر ينطبق أيضا على الأغاني التي مازلت تصدح ليومنا هذا في الملاعب.
الخسائر الاقتصادية التي تكبدتها الشركات المقاطَعة، والصدى الطيب الذي استقبل به العالم أغاني الألتراس المغربي، قد يكونا حافزا للإبداع في خلق أشكال احتجاجية جديدة.
هذا الانتقال لفضاء الفعل الاحتجاجي، خلف ”توجسا” لدى السلطات، فلحدود كتابة هذه السطور، فرضت السلطات على الفصائل المشجعة، تقديم مضمون ”التيفو” قبل تثبيته في الملعب، للموافقة عليه، وذلك على خلفية الضجة التي خلقها تيفو الغرفة 101.
تبرأ فصيل الأولاد الخضر (Green Boys)، المساند لفريق الرجاء البيضاوي من كل التأويلات السياسية للتيفو، معتبرا إياه مجرد تجسيد لما اعتبروه هيمنة تاريخية لفريقهم على غريمهم نادي الوداد الرياضي: لكن أغلب المنابر الإعلامية المغربية، ”أصرت” على إعادة طرح النقاش حول تسييس الفصائل المشجعة.
تحول الملعب الرياضي في المغرب إذن، إلى فضاء جديد للاحتجاج. احتجاج لجيل جديد لم يعش الزخم السياسي الذي طبع عهد الحسن الثاني، لكنه أثبت منذ احتجاجات ”20 فبراير”، أنه يمتلك ثقافة سياسية رغم عدم تحزبه. شباب الألتراس، هم جزء من هذا الشباب الذي يتوق للتعبير بحرية عن مكنوناته وهمومه.
هذه المرحلة، من حملة المقاطعة إلى أغاني الألتراس، تحتاج الانكباب حول دراستها بشكل متعمق ودقيق.
لكن…
ألا يشكل الاحتجاج في الملاعب، تكريسا لثقافة الكسل وانهزامية المواطن، بفعل العزوف عن الأحزاب والجمعيات، والاكتفاء باحتجاج لحظي قد يكون مجرد نتيجة لأسباب نفسية وسوسيولوجية تحدثنا عنها سلفا؟
لست ربوت