أرض من كلمات كيف صوّر أدباء فلسطين مأساة وطنهم

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية أرض من كلمات كيف صوّر أدباء فلسطين مأساة وطنهم

أرض من كلمات كيف صوّر أدباء فلسطين مأساة وطنهم

إلى محمود درويش بعد مرور خمس سنوات على رحيله
نعثر في كتابات العديد من الأدباء الفلسطينيين على تصوير لافت ولامع للتراجيديا الفلسطينية، ما يجعل من ترجمة هذه الكتابات إلى اللغات الأجنبية الحيّة أمراً ضروريّاً ليتعرّف قراء العالم على تحوّلات القضية الفلسطينية ومعاناة الفلسطينيين. وقد استخدم الكتّاب الفلسطينيون معظم الأشكال والأنواع الأدبيّة لتصوير عمق المأساة التي أصابت الشعب الفلسطيني الذي أجبر على الرحيل من أرضه، واستولت إسرائيل على أملاكه، فتقاذفته المهاجر والمنافي. واستطاع عددٌ من الأدباء الفلسطينيين الكبار، مثل محمود درويش (1941- 2008) وغسان كنفاني (1936- 1972) وجبرا إبراهيم جبرا (1920- 1994) وإميل حبيبي (1921- 1996)، إضافة إلى شعراء وروائيين وكتّاب قصة آخرين، أن يرووا لنا سيرة النكبة التي وقعت عام 1948، ويعبّروا بأساليب أدبية جديدة ومبتكرة عن مأساة شعب فقد وطنه وتوزّع في جميع جهات الأرض.
المصدرمجلة نزوى 

كانت فلسطين قبل نكبة عام 1948 من البلدان العربيّة التي أنجز أبناؤها نهضةً ثقافية جرى فيها تجديد روح الشعر وأساليبه، وكتابةُ الرواية والقصة القصيرة والمسرح. لكنّ ما حدث عام النكبة طمسَ كلّ هذه التحوّلات والتطورات الثقافية البارزة. وما جرى إنقاذه من الكتب المطبوعة والمخطوطات، التي أنجزت قبل النكبة، يُعدّ قليلاً للغاية بالمقارنة مع ما كُتب في الحقيقة. وهو ما يجعل مهمّة مؤرخي الأدب شديدة الصعوبة، ويدفعهم إلى إعادة تركيب المشهد الثقافي، والسعي للعثور على الإرث الأدبي والثقافي للفلسطينيين خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وبسبب هذه الصعوبة، التي تتمثّل أساساّ في ضياع إرث الفلسطينيين الثقافي، وتوزّعهم على المنافي، والشتات الذي دفعهم إلى السكنى في جغرافيات متباعدة، وتعرّضِ منجزهم الثقافي للتقطّع وعدم الاستمرارية، فإن سمات أدب المنفى هي التي تغلب على ما أنتجه الكتّاب الفلسطينيون بعد 1948. لقد هاجر الفلسطينيون من مكان إلى آخر، أكثر من مرة، حيث قتلت إسرائيل الآلاف منهم، وهجّرت مئات الآلاف خلال النكبة، كما نزح الآلاف أيضاّ بعد أن استكملت إسرائيل احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، ما دفع عدداً كبيراً من لاجئي 1948 إلى الهجرة مرةً أخرى إلى الأردن وسوريا ولبنان. ويمكن القول، آخذين في الحسبان ما يجري من حرب في سوريا الآن، إن المنفى الفلسطيني ما زال يغيّر جغرافياته وأمكنته. كما أن استمرار احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة، ودوران العجلة الجهنمية للاستيطان الذي لا توقفه المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية الجارية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وانسداد الأفق السياسي، يدفع الآلاف من الفلسطينيين، خصوصاً أهالي المدينة المقدّسة، وحتى بعض الفلسطينيين الذين يحملون الجنسيّة الإسرائيلية، إلى اختيار المنفى الطوعيّ إلى أمريكا وأوروبا. وهو ما يؤثّر سلباً على الإنجاز الأدبي والثقافي للفلسطينيين.
لكن، ومع أن كبار أدباء فلسطين هم من الشعراء والكتّاب الذين كان بعضهم يحمل الجنسيّة الإسرائيلية، مثل محمود درويش وإميل حبيبي وسميح القاسم؛ أو من الضفة الغربية، مثل فدوى طوقان وسحر خليفة، أو من غزة، مثل الشاعر الراحل معين بسيسو (1926- 1984)، فإن القسم الأعظم من النتاج الأدبي الفلسطيني أُنجز في منافي الفلسطينيين العديدة المتباعدة. وقد كتب العديد من الأدباء الفلسطينيين، الذين ولدوا في فلسطين قبل النكبة أو في المنافي، عن فلسطين التي عرفوها أو تخيّلوها. كما أنهم حاولوا استعادة صورة فلسطين من الذاكرة البعيدة للطفولة، أو عبر صورها الحيّة التي روتها لهم أمّهاتهم وآباؤهم، وجدّاتهم وأجدادهم. هكذا تجري استعادة فلسطين وإعادة تشكيلها في الأدب (في الشعر والقصة والرواية والمسرح) الذي تكتبه أجيال فلسطينية متعاقبة في النصف الثاني من القرن العشرين، وكذلك في بدايات القرن الحادي والعشرين. ولعلّ الانقسام الفلسطيني الحاصل الآن، ووصول القضية الفلسطينية إلى حالة انسداد سياسي، تجعلنا ندرك أن الأدب وحده، الذي يستحضر فلسطين في العقل والوجدان، هو الأرض المجازيّة التي تحيا فيها فلسطين.  
بالمعنى السابق، يمكن وصف الأدب الفلسطيني بأنه أدب منفى، كما أشرت سابقاً، وأنه بحثٌ عن الهويّة في عالم معادٍ، وكتابةٌ لحيوات ممزَّقَة، وآمالٍ صعبة المنال في مسيرة حياة شخصية متقطّعة، وعبر تراجيديا إنسانية مستمرة. يمثّل الفلسطيني، في هذا السياق من العيش والتجربة، المنفيَّ، أو الكائنَ الذي يعيش تجربة الشتات في حياة البشر المعاصرين، تمثيلاً نموذجيّاً. يُصوّر الناقد والمفكر الفلسطيني العالميّ إدوارد سعيد (1935- 2003) في كتابه «بعد السماء الأخيرة»، وعلى نحوٍ شديد العمق والقوة، حياةَ الأفراد الفلسطينيين، وكذلك التجمّعات الفلسطينية المتباعدة، مخنوقة الصوت والممنوعة في أحيان كثيرة من التعبير عن نفسها. إنه يشرح عمق الإحساس بالمنفى والانكشاف والضعف الذي يشعر به الفلسطيني. يقول: «لقد تبخر من حياتي وحياة الفلسطينيين جميعا ثبات الجغرافيا وامتداد الأرض. وحتى لو لم يقم أحدهم بإيقافنا على الحدود أو سوقنا إلى مخيمات جديدة أو منعنا من الدخول أو الإقامة أو السفر من مكان إلى آخر، فإن أراضينا يجري احتلالها. يتدّخل الآخرون في حياة كلّ منّا بصورة اعتباطية وتُمنع أصواتنا من الوصول إلى بعضنا بعضاً؛ إن هويتنا تُقيَّد وتُحبَس وتُحاصَر في جزر صغيرة خائفة ضمن محيط غير مضياف تحكمه قوّةٌ عسكريةٌ عليا تستخدم رطانة إدارة حكومية تؤمن بالطهارة [العرقية] الخالصة.»(1
يعكس الأدب الفلسطيني هذا الإحساس بعدم الاستقرار والانكشاف والضعف. لقد أُجبر الفلسطينيون على العيش في المنفى، سواءٌ في البلدان العربيّة أو في الخارج؛ في فلسطين «كمنفيين داخل وطنهم»، أو في مخيّمات اللجوء كمواطنين بلا هويّة، ممنوعين من العمل في مهنٍ كثيرة، ليقيموا في غيتوات معزولة في بعض البلدان العربيّة. وتُرجّع القصائد والقصص القصيرة والروايات والمسرحيّات، التي كتبها فلسطينيون، صدى هذا الحسّ الوجودي بالفقدان والضياع والألم وحياة المنفى التي تضغط بثقلها على الفرد والجماعة الفلسطينيين في البيت والمنفى. ويمكن أن نقع على التعبير الأكثر عمقاً عن هذه التجربة في أعمال محمود درويش، وغسان كنفاني، وإميل حبيبي، وجبرا إبراهيم جبرا، إضافة إلى عدد كبير من أعمال الكتّاب الفلسطينيين الأحياء.
من هنا، فإن الإشارة إلى المنفى، كقيدٍ وعائق ونفيٍ للهويّة، تتكرر بصورة متواترة في الأدب الفلسطيني. في قصيدة لمحمود درويش بعنوان «عاشق من فلسطين»2» يعبّر الشاعر الراحل عن الشعور بالمنفى بصورة غير مباشرة. إنه يوسّع صورة المنفى من خلال الحديث عن حكاية حبّ. لكن هل يحكي الشاعر عن محبوبته، أم أنه يعبّر عن عذابه وألمه والرعب المقيم عميقاً في داخله؟ فرغم أن القصيدة كتبت خلال إقامة درويش في فلسطين، قبل رحيله إلى العالم العربي عام 1971، فإن في إمكاننا النظر إلى أنا المتكلّم في القصيدة كممثلّة لمجموع اللاجئين والمطرودين والمُهجَّرين والمهمّشين من الفلسطينيين المقيمين في الوطن والشتات. إن افتقاد البيت والوطن، والإحساس بآلام النفي، والهويّة المهددة، يجري التعبير عنها بصورة لافتة في واحدةٍ من قصائد درويش المعروفة  بين القرّاء العرب.
كلامُكِ .. كان أغنيّه 
وكنت أحاول الإنشاد
ولكنّ الشقاء أحاط بالشفة الربيعيّة
كلامك، كالسنونو، طار من بيتي
فهاجر باب منزلنا، وعتبتنا الخريفية
وراءك.. حيث شاء الشوقُ..
وانكسرت مرايانا
فصار الحزن ألفين
ولملمنا شظايا الصوت..
لم نتقن سوى مرثيّة الوطنِ!
سنزرعها معاً في صدر قيثارِ
وفوق سطوح نكبتنا، سنعزفها
لأقمارٍ مشوَّهةٍ .. وأحجارِ
ولكنّي نسيتُ .. نسيتُ يا مجهولةَ الصوت:
رحيلك أصدأ القيثار أم صمتي؟!
رأيتكِ أمسِ في الميناءْ
مسافرةً بلا أهل.. بلا زادِ
ركضتُ إليك كالأيتام..
أسأل حكمة الأجداد
لماذا تُسحبُ البيّارة الخضراءْ
إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناء
وتبقى، رغم رحلتها 
ورغم روائح الأملاح والأشواق،
تبقى دائماً خضراء؟
لا يُشفى الفلسطينيّ من إحساس اللاانتماء والشعور بأنه يعيش غريباً في هذا العالم. ولهذا يقوم الكاتب الفلسطيني بالتعبير عن هذا الوجود الحزين الكئيب، بغضّ النظر عن المكان الذي يعيش فيه الفلسطينيّ. استناداً إلى هذا الوعي، يقدّم إدوارد سعيد تأملاته حول المنفى، ساعياً إلى وضع يده على الخيوط التي تشكّل نسيج تجربة المنفى الفلسطينيّة. وهو إذ يعتمد على تجربته الشخصيّة، وآلام المنفى التي اختبرها، فإنّه يصف المنفى كشيء «جذّاب» وغريب، ينبغي أن نفكّر فيه، ومع ذلك فهو في الوقت نفسه «تجربة عصيبة» وكريهة. «المنفى حالةٌ دائمة من الغربة والابتعاد والإقامة في الهامش، هجرةٌ مستمرة لا يمكن عكسها، وهو من ثمّ صيغةٌ من صيغ الوجود تولّد شعوراً متواصلاً بالانشقاق عن السياق، والحنين الدائم إلى ماضٍ وأرضٍ وثقافة لم تعد كلُّها موجودةً في المنفى وثقافته وحالته الوجودية.» إن المنفى هو «ذلك الصدع الذي يصعب شفاؤه ويفصل بصورة قسريّة بين المرء ومسقط رأسه، بين الذات وبيتها الحقيقي: إن الحزن الجوهري الذي يولّده لا يمكن التغلّب عليه.»(3
هذا ما نحسّه لدى قراءة أعمال إميل حبيبي الذي تصوّر رائعته «المتشائل» (1974) حياة الفلسطينيين في ظلّ دولة إسرائيل التي قامت على أرض فلسطين التاريخيّة. إن العمل السرديّ الذي أنجزه حبيبي يقدّم هجائيّة للوجود المهدد وغير المستقر على أرض فلسطين التاريخيّة؛ فحياة الفلسطيني الإسرائيليّ هي حياة منفى تشبه حيوات الفلسطينيين الآخرين الذين يعيشون في الشتات. في «المتشائل»، كما في الأعمال الأخرى التي صدرت عن الأوضاع السياسيّة والاجتماعية نفسها التي انتجت «المتشائل»، يعبّر حبيبي ببراعة وعمق عن معاناة الفلسطينيّين داخل إسرائيل؛ عن الإحساس بعدم الانتماء، وكون المرء عميلاً لجهتين: عن كونه فلسطينياً وغير فلسطينيّ، إسرائيليّاً ولكن دون أن تكون لديه حقوق الإسرائيليّ. بالإضافة إلى تركيزه على معضلة الوجود الفلسطينيّ، قام حبيبي بتطوير النوع الروائي في الأدب العربيّ المعاصر. لقد هجّن الشكل الروائيّ الأوروبيّ مُدخِلاً في عمله السرديّ أشكالاً نثريّة عربية تراثيّة كالمقامة، وأسلوب الحكي في ألف ليلة وليلة، كما جعل الأشعار العربيّة القديمة جزءاً لا يتجزّأ من كتابته الروائية. وتمثّل عملية تهجين الشكل، وإدخال العناصر التراثيّة في الشكل السرديّ المستعار من الغرب، نوعاً من البلسم الشافي الذي يُسَكّن الألم الذي تعاني منه شخصيات حبيبي الروائية، كما تمثّل ردّاً بالكتابة على تحويل هويّة الأرض الفلسطينية من قبل الحركة الصهيونية.
يجري تصوير التجربة الفلسطينية في المنفى في أعمال كاتبين كبيرين آخرين هما غسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا اللذين ركّزا على سرد المأساة الفلسطينية في أعمالهما الروائية والقصصية والمسرحية كذلك. فقد صوّر كنفاني، وهو روائيٌّ وكاتب قصة قصيرة وناقد وكاتب مسرحيّ وباحث وكاتب مقالة سياسيّة، وعضوٌ مؤسس في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين (اقتُلعت عائلته من مدينة عكّا عام 1948 وقتله الإسرائيليون بتفجير سيّارته في منفاه البيروتيّ عام 1972)، مأساةَ اللاجئين الفلسطينيّين. كما أنه سعى، في الوقت نفسه، إلى بناء الوعي والهويّة الفلسطينيين، واختبار دروب التحرير والاستقلال لشعبه. إنه يعرض في صورٍ ومجازات ورموز قويّة المعضلةَ الفلسطينية، ليوصل إلى قارئه الإحساس بالتخلّي والخيانة التي تعرّض لها الفلسطينيون. روايتاه «رجال في الشمس» (1963)،  وما تبقّى لكم (1966)، تصوّران رمزيّاً هجرة الفلسطينيين والمأساة التي حلّت بهم بعد نكبة 1948. لكن بالإضافة إلى رواياته، كتب كنفاني أربع مجموعات قصصية، وثلاث مسرحيات، تركّز جميعها على عذابات الفرد، ومعاناة البشر عامّةً. ولعلّ كنفاني، مثله مثل محمود درويش، يضع فلسطين والفلسطينيين في قلب الوعي الإنسانيّ مُحوّلاً مأساتهم كأفراد وشعب إلى رمز للتراجيديا البشريّة بعامّة
أما جبرا إبراهيم جبرا، وهو كاتب قصة قصيرة، وروائي كبير، وناقد أدبي وتشكيليّ، ومترجمٌ بارز من الإنجليزية إلى العربيّة، ورسّام، وشاعر، فقد كتب عن الفرد الفلسطيني في مجتمعات المنفى، كاشفاً عن حيرة الفلسطينيين واضطرابهم وغربتهم، وشعورهم بالتهديد الدائم والخوف من انمحاء الهويّة. إن الشعور بالحصار، والحاجة إلى التحرر من الإحساس بهذا الحصار، ملازمٌ لشخصيات جبرا الروائية والقصصية. يتمثل جوهرُ عمل جبرا الروائي في «صيادون في شارع ضيق» (وهي مكتوبةٌ باللغة الإنجليزية، 1960)، و»السفينة» (1969)، و«البحث عن وليد مسعود» (1978)، في المزاوجة بين أفكار الحداثة وتحرر الفلسطينيين واستقلالهم، في الداخل، كما في المنافي.

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button