من «سجل أنا عربي» إلى «عاشق من فلسطين»

إعلان الرئيسية

الصفحة الرئيسية من «سجل أنا عربي» إلى «عاشق من فلسطين»

من «سجل أنا عربي» إلى «عاشق من فلسطين»

من «سجل أنا عربي» إلى «عاشق من فلسطين»

يبدو لي أن الشاعر محمود درويش كان أفضل من عبّر، في قصائده وحواراته الصحافية، عن جوهر مراحل تمثلات الهوية لدى الفلسطينيين في مناطق 1948، لا سيما خلال الفترة التي كانوا فيها منقطعين تمامًا عن محيطهم الطبيعي، قوميًا ووطنيًا، واستمرت حتى سنة 1967.
ولتوضيح ما أقصد، أشير إلى المقطع التالي من الحوار الذي أجراه الشاعر سامر أبو هواش مع درويش ونُشر في مجلة «نزوى» العُمانية العدد 29 (كانون الثاني/ يناير 2002):
ـ «سؤال: متى سمعت كلمة فلسطين للمرة الأولى، أنت الذي نشأت ضمن المجتمع الإسرائيلي؟
ـ «درويش: كأقلية كان الإسرائيليون يعاملوننا كعرب، رفضهم واضطهادهم لنا كان على أساس أننا عرب، كان إدراكنا إذن لعروبتنا، ومن هنا كتبت (قصيدة) «سجل أنا عربي» وليس «سجل أنا فلسطيني». كنا نعرف أن هناك بلاداً اسمها فلسطين لكن لم يكن هناك مشروع اسمه فلسطين، أو كيانية اسمها فلسطين، ويكفي أن تقول أنا عربي من دون الحاجة إلى التعريف الفلسطيني، وبدأت الفكرة الفلسطينية تنمو بعد نشوء منظمة التحرير الفلسطينية».
ـ «سؤال: بعد هزيمة 1967؟
ـ «درويش: وعلى أنقاض هذه الهزيمة العربية، كان على الفلسطيني أن ينتبه إلى فلسطينيته وأن يأخذ أمره بيديه. لكن الآن أنتبه إلى أن مجموعتي الشعرية الثانية كانت بعنوان «عاشق من فلسطين» ولا أعرف من أين جاءني هذا التأكيد على الشيء الفلسطيني، خاصة كما قلت لك أننا كنا ننظر إلى أنفسنا كما كان الإسرائيليون ينظرون إلينا كعرب».
لا بُدّ هنا من التنويه، على ذكر تلك الهزيمة، أن درويش اكتسب صيتًا وشهرة ذائعين في العالم العربي - مع عدد من الشعراء العرب في إسرائيل - في أعقابها. وقد حدث ذلك، من ضمن أشياء أخرى، بفضل كتاب «أدب المقاومة في فلسطين المحتلة» للأديب والباحث الفلسطيني غسان كنفاني، الذي صدر في بيروت قبل سنة 1967. وفي وقت لاحق كان هذا الصيت، على ما يبدو، من جملة العوامل، التي أدت إلى أن يتخذ درويش قراره ترك البلد، وعدم العودة إلى الاستقرار فيه مرة أخرى.
غير أنه قبل 1967 كان العالم العربي يتغاضى، بصورة تكاد تكون تامة، عن العرب الذين بقوا في داخل «الكيان الصهيوني» وعن إبداعهم الأدبيّ. على الرغم من ذلك كان سؤال الهوية موتيفًا متميزًا في الشعر الفلسطيني في إسرائيل منذ أوائل خمسينيات القرن الفائت.
وفي الإمكان أن نلاحظ أن قصائد تلك الأعوام تنطوي، في معظمها، على قاسم مشترك يتمثل في التماهي مع العالم العربي الكبير، الذي أقيمت إسرائيل في قلبه، على الأقلية العربية الباقية فيها. وهذا التماهي انعكس في قصائد درويش الأولى، كما نوّه بنفسه. وظل منعكسًا في ديوان «عاشق من فلسطين» الذي صدر في سنة 1966، وبمرور الأعوام في الإمكان أن نلاحظ أن هناك منطلقًا آخر يقف وراء تلك القصائد، في معظمها، هو التماهي مع الشعب العربي الفلسطيني، الذي تشظّى وتشتت في أصقاع الأرض. وقد أصبح هذا المنطلق أكثر حدّة وحضورًا كلما أخذت الهوية الفلسطينية في التبلور والاكتمال، وخاصة بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، علمًا بأنه كان موجودًا في قصائد الشعراء الفلسطينيين في إسرائيل قبل تلك الحرب كذلك.

درب الآلام

إن درب الآلام التي سلكها درويش والأدباء والفنانون الفلسطينيون من أبناء جيله، خلال أول طريقهم في إسرائيل، لا تختلف عن درب الآلام التي كانت من نصيب الثقافة العربية في البلد عمومًا، في ظل ما حدث في إبان سنة 1948 وما أعقبها. ومع أن هناك طرقًا كثيرة لقراءة إبداع هذا الجيل، إلا أنه لا تجوز قراءته في منأى عن تاريخ الثقافة العربية في البلد عقب السنة المذكورة.
كانت نكبة 1948 بمثابة هاوية سحيقة. فهي لم تخلّف في فلسطين تغييراً جذرياً في المجتمع الفلسطيني من حيث العدد فقط (بحسب الإحصاءات «الجافة» بقي 156 ألفًا فقط في تخوم «الخط الأخضر» من مجموع أكثر من 800 ألف كانوا يعيشون في فلسطين قبل تلك السنة)، لكنها أحدثت أيضاً هزّة جوهرية في التركيبة الاجتماعية وأثّرت، إلى حد كبير، على مدلولات المشهد الثقافي اللاحق في صفوف المجتمع الباقي، الذي تغيّرت حاله من النقيض إلى النقيض.
ومن المعروف أن أكثر من ثلاثة أرباع الذين بقوا (لم يطردوا) كانوا من سكان القرى (الريف). أما سكان المدن فقد تم تهجير الأغلبية الساحقة منهم عن فلسطين في إبان النكبة أو بعدها بقليل. وهذا الواقع أحدث اهتزازاً صاخباً وخلخلة كبيرة في جوهر المجتمع الفلسطيني الباقي، غير المطرود، الذي استفاق على واقع مغاير، جملة وتفصيلا. ومعروف كذلك أن المدن الفلسطينية قبل النكبة الكبرى، وخصوصًا يافا وعكا وحيفا، لم تكن فقط مركز القيادة السياسية ولكن أيضاً، كما في معظم المجتمعات، المركز الأساس للقيادة الفكرية والثقافية.
وهكذا فإنه بعد نكبة 1948 بقي المجتمع الفلسطيني المقيم داخل حدود إسرائيل ريفياً في أغلبيته الساحقة. في الوقت نفسه أخضع هذا المجتمع لحصار سياسي - اجتماعي - ثقافي من طرف الحركة الصهيونية التي أصبحت قيادة تلك الدولة. وتحوّل إلى أقلية قومية في دولة رأت ولا تزال ترى أن غايتها الرئيسية هي تطبيق الفكر الصهيوني، بكل ما يعنيه ذلك من النواحي الاجتماعية والقومية والثقافية.
ليس بعيداً عن هذه المدلولات، بل وتحت وطأتها الثقيلة، بدأت تنشط بواكير حركة الثقافة الوطنية الفلسطينية في مناطق 1948. وسرعان ما أضحت هذه الحركة بمنزلة وعاء الحفاظ على الهوية القومية في وجهة شحن الذاكرة الجماعية للفلسطينيين في الداخل بحقول خصبة من الدلالات التاريخية والثقافية المرتبطة بالنكبة وآثارها، والمرتبطة أيضًا بالهوية القومية للفلسطينيين في إسرائيل.
تاريخياً كان الشعر هو السبّاق في النتاج الأدبي. ولعل أحد العوامل وراء ذلك، وإن كان ليس أكثرها أهمية، كون الشعر يستطيع أن ينتشر من دون أن يطبع، وذلك عبر الانتقال من اللسان إلى الإذن، فإلى لسان آخر وأذن أخرى... وهكذا دواليك.
وتجدر الإشارة إلى أنه بجانب الشعر الفصيح انتشر الشعر الشعبي، الذي كان المتنفس، والذي عبر الباقون من خلاله عن أشواقهم ومعاناتهم. وقد رأى أحد الباحثين التربويين الفلسطينيين أنّ التعبيرات البسيطة، المباشرة، البعيدة عن التكلف والرمز والغيبيات، التي عكسها الأدب الشعبي (ويمكن إضافة أنه قد تختلف الآراء حول قيمة هذه التعبيرات الفنية لكن لا تختلف على شيء آخر هو صدقها) تعكس راقة (طبقة) أولية وخامة أصلية لثقافة وطنية فلسطينية صادقة كانت الطاقة الدفاقة التي تدفع الشعب إلى تصعيد تصوره الذاتي، من جهة، وإلى تكريس الذات على قاعدة الانتماء الفلسطيني اليقظ والواعد والمتصاعد، من جهة أخرى. هذا الوعي الأولي سينعكس، فيما بعد، ويترجم إلى مستوى فوق أوليّ، متصاعد هو أيضًا، في إبداعات ثقافية متعاقبة نشرت في الصحف والمجلات التي «تغرِّد خارج السرب» الصهيوني، أو ألقيت في المهرجانات الشعرية الشعبية المختلفة.
وهذه الإبداعات بدأت مع جيل الأدباء الفلسطينيين توفيق زياد، حنا أبو حنا، عصام العباسي، حنا إبراهيم، راشد حسين. وتواصلت مع جيل محمود درويش وسميح القاسم، على سبيل المثال فقط.

أرضيـات التفاعل

هنا يثور السؤال: ما هي الأرضيات التي تفاعلت عليها هذه الإبداعات، من حيث سعيها إلى وقاية الهوية؟.
لوحة للفنان الفلسطيني إبراهيم هزيمة
لوحة للفنان الفلسطيني إبراهيم هزيمة
في معرض الإجابة عن هذا السؤال نستعيد توكيد الباحث الدكتور سامي مرعي أنه على أرضية «الواقع العربي الفلسطيني في إسرائيل» كان دور القادة العرب في الحزب الشيوعي الإسرائيلي بارزاً من حيث وقاية الهوية القومية، من ناحية، ومن حيث زرع الفكر التحرري، الاجتماعي والسياسي، في وعي الجماهير المتفتح والمتقد، من ناحية أخرى، وذلك بالأساس من خلال صحافة هذا الحزب العربية، الأدبية والسياسية. ويضيف مرعي في شأن متصل: «من حيث استقطابه لجماهير عربية واسعة وطاقات ثقافية وفكرية محلية مبدعة، يعرف للحزب الشيوعي الإسرائيلي دوره في التأكيد على استمرارية الثقافة الفلسطينية التي كانت مهددة بالانقطاع...».
إن توكيد استمرارية الثقافة الفلسطينية، الذي يقول به الباحث نفسه عن حقّ، انعكس أساسًا في منحيين متصلين، مبنى ومعنى:
الأول - منحى إبراز النتاج الأدبي والفكري لأعلام الثقافة الفلسطينية قبيل نكبة 1948 (مثل نتاج إبراهيم طوقان، عبد الكريم الكرمي - أبو سلمى، عبد الرحيم محمود وغيرهم من رموز الثقافة الفلسطينية في العصر الحديث).
الثاني - منحى التوكيد، في معرض «التنظير» لخلفيات النتاج الأدبي الفلسطيني داخل «الدولة اليهودية»، على كون هذا النتاج بعد نكبة 1948 هو استمرار (طبيعي) للنتاج الأدبي قبل تلك النكبة.
في هذا الشأن تحديدًا يقول محمود درويش: «يخطئ من يعتقد بأن شعرنا وأدبنا هنا قد نشأ من لا شيء.. فنحن الجيل الذي ترسّم خطوات من جاء قبله.. وليس شعرنا إلا امتدادًا لشعر أبي سلمى وإبراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود».
أوضح الشاعر سميح القاسم، ذات مرة، أن الشاعر والبطل توأمان، في إشارة صافية إلى الدور الذي على الأديب الفلسطيني أن يضطلع به. وفي مقابلة أدلى بها القاسم، في أواسط ستينيات القرن العشرين، إلى الناقد اللبناني محمد دكروب يقول إنه في ضوء الظروف القاهرة، التي وجد الشعراء الفلسطينيون الباقون في إسرائيل أنفسهم في خضمها، كانوا مضطرين إلى أن يلتزموا، في شعرهم الحديث، وبصورة تلقائية، إيقاعات وأوزانًا تخاطب قلوب الجماهير العريضة. وتمثلت الغاية من وراء ذلك في الحاجة إلى ترسيخ دلالات تسعف هذه الجماهير في صراعها على الهوية، وعلى الذاكرة، في مواجهة المشروع الصهيوني، وفي ظل الانقطاع عن محيطها الطبيعي، الذي لم تكن لها يد فيه.
من المفارقات أن تواصل فلسطينيي 1948 مع هذا المحيط بعد 1967 تم من دون صدمات إيجابية أو سلبية طرأت عليهم، بينما اعترى مظاهر التحام المحيط بجزئه في فلسطين المحتلة منذ 1948 قدر كبير من الخلخلة، أجاد درويش وصفه فيما يتعلق بالموقف من إبداعه الثقافي، حين قال في حواره المطوّل مع الشاعر عبده وازن من صحيفة «الحياة» ما يلي: «كان يُنظر إليّ عندما كنت في الأرض المحتلة كوني شاعر المقاومة. وبعد هزيمة 1967 كان العالم العربي يصفق لكل الشعر أو الأدب الذي يخرج من فلسطين، سواء كان رديئاً أم جيداً. اكتشف العرب أنّ في فلسطين المحتلة عرباً صامدين ويدافعون عن حقهم وعن هويتهم. اكتسبت إذن النظرة إلى هؤلاء طابع التقديس، وخلت من أي ذائقة أدبية عامة. هكذا أُسقطت المعايير الأدبية عن نظرة العرب إلى هذه الأصوات المقاومة بالشعر والأدب في الداخل».
 

التصنيفات:
تعديل المشاركة
Back to top button